الجمعة 24 شباط 2023 06:17 ص |
اللواء عباس إبراهيم: المحارب بالقوّة الناعمة "2 /3" خفايا العلاقة مع السوريين.. وابتكار الحلول الحدودية برّاً وبحراً |
* جنوبيات إحدى نقاط قوّة مُدير عام الأمن العام اللبناني اللواء عباس إبراهيم هي علاقاته المُتشّعبة مع الأطراف الدولية المُتناقضة، ويعود ذلك إلى تغليبه للمصلحة الوطنية، وبراعته في إدارة العلاقات الأكثر تعقيداً. تُعتبر علاقته مع السوريين نموذجاً جعلت لبنان مرجعاً للدول الكبرى لمُكافحة الإرهاب المُتطرّف، والأهم أنّه لطالما كان مُبتكراً للحلول الحدودية برّاً وبحراً في النزاع مع «إسرائيل».
خرج السوريون من لبنان بجيشهم واللواء إبراهيم على خلاف كبير معهم، إذ تعرّض لاضطهاد من قِبلهم. كانت هنالك أحقية بالترقية للعقيد عباس إبراهيم ورفاق دورته، وقد ضغط السوريون لمنع هذه الترقية لصالح آخرين، وحرموا دورة إبراهيم كلها من الترقية، فلم يرضَ إبراهيم مُفضّلاً اتخاذ موقف «عزّ» على أنْ ينصاع لمطالب السوريين، بأنْ تتم ترقية الدورة بعد 6 أشهر. تمَّ إبعاد العقيد إبراهيم عن أي مهام، وخدم 3 أشهر في بيروت لم يشتغل فيها شيئاً، أُعطِيَ مكتباَ صغيراَ في مقر عام بيروت، يجلس لا يفعل شيئاً، بل يقرأ الصحف.
قال له رئيسه يومها: أنتَ عباس إبراهيم أنا لا أستوعب كيف ستكون مرؤوساً عندي! وكان إبراهيم عقيداً له اسم لامع بالجيش.
بعد 3 أشهر أرسل وراءه قائد الجيش العماد ميشال سليمان، وقال له: «لا يمكنك أن تبقى قاعداً من دون وظيفة أساسية في الجيش، وطلب منه الاختيار بين أنْ يكون قائداً لفوج مغاوير البحر أو قائداً لفوج مغاوير البر»، فاختار الثاني. وبقي 3 أعوام في هذا المنصب. في حرب 2006، برع في تجميع المعلومات عن الإسرائيليين ومراكزهم وأسلحتهم يرسلها إلى قيادة الجيش، وفي تلك الحرب العدوانية ضُد لبنان، التي استمرت 33 يوماً كان يُعدُّ تقريراً سياسياً وأمنياً يرسله يومياً إلى قائد الجيش ومُدير المُخابرات، اللذين كانا يحضران جلسة مجلس الوزراء. في حرب 2006، كانت بصمات اللواء إبراهيم الأكثر حضوراً في صوغ القرار 1701.
مَنْ هو آصف شوكت؟
جلس العميد عباس إبراهيم مُقابل أحد ضبّاط الأمن السوريين، وهو اللواء سمّور، وقدّم الجزء المتعلّق بالمُخابرات اللبنانية، وبعد انتهائه، طلب الرئيس الدكتور بشار الأسد الاجتماع بالعماد جان قهوجي، وقصد الوفد المطعم، حيثُ يُنظّم غداءً رسمياً.
لم يكن العميد إبراهيم يعرف أحداً من السوريين، ثم سأل عمّا يريده منه شوكت فارتبك سمّور، وقال: لا أعرف هذه أوامر سيادة اللواء. يبدو أنّ اللواء آصف شوكت اقتنع، وكان باباً للمُصالحة بين إبراهيم والسوريين. بعدها كَثُرَتْ المهام التي احتاجت إلى اتصالات وتنسيق بين لبنان وسوريا، وصار يتم تكليف العميد إبراهيم بعد أنْ تعرّف إلى اللواء شوكت، ثُم حدّد لإبراهيم موعداً مع الرئيس الدكتور بشار الأسد، فطلب منه إبراهيم تحديد قناة اتصال له تجنّبه أنْ يعمل «برمة العروس» في كل مرّة يحتاج فيها إلى حلّ مسألة بين البلدين.
لبنان محور الدول للمعلومات حول الإرهاب كان الغرب بدوله يحتاج إلى سوريا المُطلّة بعمق على موضوع الإرهاب كونه يضرب أراضيها، لكن لم يكن يريد أن يتواصل مع المسؤولين السوريين. لعب اللواء إبراهيم دور جسر التواصل، إلى حين اتخذ الرئيس الأسد قراراً بأنّه لا يوجد أمن بلا سياسة أو دبلوماسية وذلك في العام 2013. هكذا مرّت سنتان قدّم فيها السوريون للبنان عبر اللواء إبراهيم كل ما يحتاجه الأجانب لبلادهم، واستفاد لبنان من هذه العلاقة بشكل واسع في تفكيك شبكات إرهابية عدة كانت تستهدف الأراضي اللبنانية، كذلك في ملف تحرير راهبات معلولا.
توأمة الأمن والدبلوماسية حدّد القانون الذي أنشأ المُديرية العامة للأمن العام اللبناني صلاحياتها، وأبرزها الحفاظ على الأمن السياسي، وقد طبّق اللواء إبراهيم هذا البند بنجاح باهر، إذ تمكّن من اختراق حواجز التوجّس من الأمنيين من خلال الثقة التي زرعها في كل المهام التي عالجها. ثقة انسحبت على المُديرية العامة للأمن العام بشخص مُديرها العام، ما مكّنه من الوصول إلى الهدف الأبعد، وهو الحِفاظ على الأمن السياسي. استلزم بناء هذه الثقة صفات أبرزها الشفافية والمصداقية والصراحة والتكتم المُطبق. واجه اللواء إبراهيم في بداية الوساطات السياسية صعوبة في التعاطي مع هذا الموضوع، وتحديداً «نقزة» تولّدت من سؤال السياسيين اللبنانيين: لِمَا نسمح لمسؤول أمني أن يكون وسيطاً بينما الحل والربط بأيدينا؟ لم يستوقف هذا التوجّس السياسي اللواء إبراهيم، برأيه أنّ الأمنيين والسياسيين والاقتصاديين وجميع مَنْ يعملون في مجالات بناء الدولة عليهم أن يكونوا فريق عمل واحد. تمكّن من تثبيت هذه النظرية وكسب ثقة الجميع. المصداقية هي الأساس، هكذا تبيّن، لكن الصمت والامتناع عن الاستفاضة بشرح أو تفسير أو تحليل، هي أيضاً مزايا عُرِفَ بها كوسيط سياسي أو كأمني يخوض في أعقد المسائل الإقليمية والدولية. في الوساطة السياسية برز نجمه إبّان الفراغ الرئاسي الذي امتد لعامين ونصف العام قبل انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية في العام 2016، وتمكّن من لعب دور الجامع وعزّز الاتصالات بين الجميع في ظلّ هذا الفراغ. في عهد الرئيس ميشال سليمان بدأت مسيرة اللواء إبراهيم التفاوضية، فلمع اسمه كمفاوض إقليمي في قضية مخطوفي أعزاز، وقد ترك الرئيس سليمان للواء إبراهيم هامشاً كبيراً جداً للعمل الجامع بين الأمن والسياسة. ولولا ملكته السياسية لما تمكّن من قيادة تفاوض أمني سياسي على نطاق جغرافي يجمع بين لبنان وسوريا وتركيا وقطر ومع أعلى المُنظّمات الإرهابية الناشطة في الحرب السورية. كان الأمن والسياسة صنوان، فلم يكن يُمكنه النجاح في تبادل أسرى من السجون السورية لولا تدخّل الرئيس بشار الأسد، والأمر سيّان في التعاون مع تركيا وقطر، حيث كان أميرها تميم يتدخّل شخصياً لحلّ بعض العقد.
دور محوري في ترسيم الحدود البحرية كان للواء إبراهيم دور محوري في إتمام ترسيم الحدود بين البلدين. فقد تسلّم ملف ترسيم الحدود البرية مع «إسرائيل»، بحيث كانت ثمة 13 نقطة حدودية مُتحفّظ عليها، فتمّ حلّ 7 نقاط. قصد مساعد وزير الخارجية الأميركية ديفيد ساترفيلد، اللواء إبراهيم في العام 2018 وهنّأه على حل مشاكل 7 نقاط خلافية، قائلاً بأنه يجب الاستكمال وحلّ قضية نقطة الـ»بي وان» الحدودية البرية. التقى بعدها اللواء إبراهيم ساترفيلد في الناقورة في شباط 2021، وذلك في مقر قائد القوّات الدولية، وكان وقتها الجنرال مايكل بيري. وكانا وحدهما. قال اللواء إبراهيم بأنّه لا يمكن حل قضية الـ»بي وان»، إلى حين ترسيم الحدود البحرية، وأبلغ ساترفليد بأنّه لم تعد لديه النية بالاستمرار في المفاوضات البرية لأن الإسرائيلي سيُدير ظهره ويُغادر بعد الانتهاء من ترسيم الحدود البرية. طالب اللواء إبراهيم بورقة ضغط، وهي الحدود البرية مع الإسرائيلي إلى حين الانتهاء من ترسيم الحدود البحرية. وحصلت عمليات إقناع ماراثونية للانتهاء من ترسيم الحدود البرية كلياً لأن ذلك أفضل للبنان بحسب الأميركيين. فكان جواب اللواء إبراهيم سلبياً مفاده: «نحن أيضاً نعرف ما هو الأفضل للبنان». لم يمشِ الحال. في هذا السياق التفاوضي العاصف، تعرّض اللواء إبراهيم إلى ضغوط سياسية داخلية كبرى لحثّه على الانتهاء من ترسيم الحدود البرية، فرفض. إلى حين، قصده مسؤول رسمي رفيع المستوى أفصح له بأن لبنان موعود بمُساعدات قيمتها 6 مليارات دولار في حال أنهى ترسيم النقاط المُتبقية. «أرفض ذلك» قال اللواء إبراهيم مردفاً: «جيبوا حدن غيري يخلّصهم». في اليوم التالي، دعاه المسؤول الرسمي إياه إلى «كزدورة» في الحديقة وأبلغه: وعدني جاريد كوشنير - صهر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب - بـ6 مليارات دولار، وطلب منّي أنْ أحثّك على إنهاء موضوع النقاط الحدودية البرية المُتبقية. كان جواب اللواء إبراهيم قاطعاً: لا أعرف كم يحوي البحر من مليارات لكنّني لن أبيعها بـ6 مليارات دولار. بعدها قصد رئيس المجلس النيابي نبيه بري وأبلغه و»حزب الله» مُحصّناً نفسه من الناحية السياسية.
«صديق» آموس وبداية التفاوض الجدّي إثر تدخّل هذا الصديق، اتُّفِقَ على أنْ يتم اللقاء بين اللواء إبراهيم وآموس هوكستين في باريس. في هذا الوقت تمَ تنظيم البطولة العربية في الدوحة، ودُعِيَ الرئيس ميشال عون للحضور ومعه اللواء إبراهيم. في الدوحة، فوجئ اللواء إبراهيم بتحديد موعد له مع هوكستين وكان يهمّ بالمغادرة مع الوفد اللبناني، استأذن الرئيس عون ليبقى في الدوحة. دعا هوكستين اللواء إبراهيم على الفطور الصباحي في الفندق وأراه خريطة طالباً رأيه بها، رفضها اللواء إبراهيم فوراً، كونها خريطة مُتعرّجة، فسأله هوكستين عما يريده لبنان؟ فقال اللواء إبراهيم: «إنّ أقلّ ما يمكن أنْ نقبل به هو الخط 23، بالحد الأدنى، فيما ترفضون قطعاً مطالبة الجيش اللبناني بالخط 29». لم يقتنع هوكستين لكنه استمهل اللواء إبراهيم عائداً إلى واشنطن، وواعداً إيّاه بزيارته مُجدّداً في بيروت ومعه خريطة معدّلة. وهذا ما حصل. رفض اللواء إبراهيم الخريطة المُعدّلة مجدّداً التي عرضها عليه الموفد الأميركي فور وصوله إلى مكتبه في المُديرية العامة للأمن العام على المتحف، وقد درج هوكستين على بدء جولاته ما أنْ يخرج من مطار رفيق الحريري الدولي بزيارة اللواء إبراهيم. سأله هوكستين عمّا يقوله بقية السياسيين؟ فأجابه: اسألهم، بالنسبة إليَّ فإنّ هذه الخريطة مرفوضة. كان اللواء إبراهيم قد أجرى اتصالاته بالرؤساء الثلاثة، وتمّ توحيد الموقف اللبناني للمرّة الأولى. سقطت خريطة هوكستين المُرتكزة إلى الخطوط المُتعرّجة. لم يمشي الحال، فدخلت لاحقاً على خط التفاوض مُسيّرات «حزب الله» وسخنت المفاوضات. في هذا السياق، يروي العارفون أنّه «حدث أمر ما» لم يُكشَف عنه لغاية اليوم، حدا بآموس هوكستين إلى القبول بإعطاء لبنان الخط 23 كاملاً، وأقنع الإسرائيليين بذلك.
ضغوط جنونية على اللواء تمّت مُحاصرة اللواء إبراهيم بالأسلاك الشائكة في الحرب كما في السلم. كل خطوة كان اللواء إبراهيم يقوم بها، كانت تقابلها ردود فعل من باب الضغط: مُحاولات لتشويه سمعته وإقحام اسمه في ملف انفجار المرفأ وإلصاق التهم والتجنّي. كان مَنْ يُحبّون اللواء إبراهيم يشعرون بالاستفزاز، أما هو فكان يصمت لا ينفي ولا يدحض، مُدركاً ما يدور في الخفاء، فواجه الحملات ببرودة، وحين يأتيه صاحبها كان يتعاطى معه وكأنَّ شيئاً لم يحصل، يباغت عدوّه بالحكمة والحوار والكياسة السياسية.
من أين أتى هذا الجانب الجليدي من شخصيته؟ من الروايات، أنّه حين وقع اشتباك على كورنيش المزرعة بين حركة «أمل» والمُرابطون، طلبت منه قيادة الجيش الفصل بين الطرفين وإدخال الملالات في الوسط لإيقاف إطلاق النيران، فجهّز العسكر وصعد إلى الملالة وجلس على سطحها ليُعطي ثقة للعسكر. ومشوا، فتمَّ ضربهم بقذيفة «أر بي جيه» فأُصيب بيده، أنزل اللواء إبراهيم العسكر إلى مركز صيدلية «عيتاني» وقف مع مُرافقه على الزاوية، الكتف على الكتف تطلّع إليه فرآه مُردياً برصاصة في رأسه، هكذا استشهد الرقيب أوّل حسن صبرا. أثناء قتاله في عرمون مع رئيسه الضابط شفيق شربل، قُتِلَ الأخير أمامه، وبقي مُحاصراً مع جثته أياماً إلى حين وصل الجيش إليه، وكان لا يزال لديه 5 طلقات، وذلك في العام 1983.
ثُمَ، بعد أنْ تسلّم الأخضر الإبراهيمي مهمته في لبنان في العام 1989، كان اللواء إبراهيم في المنزل، آتياً من أميركا بعد انتهائه من دورة رفض بعدها الالتحاق بجيش مُنقسم بين شرقية بقيادة العماد ميشال عون وغربية بقيادة سامي الخطيب.
ارتبط اللواء إبراهيم بعلاقات وطيدة مع القادة العرب والأجانب والمرجعيات الروحية الإسلامية والمسيحية، وفي طليعتها قداسة البابا فرنسيس، الذي استقبل اللواء إبراهيم مرات عدة في حاضرة الفاتيكان، كانت أولها في تشرين الأول 2015، حيث أكد لقداسته على «أهمية تثبيت وجود المسيحيين في الشرق تعزيزاً لمنطق حوار الحضارات الذي يُنادي به الفاتيكان». المصدر :اللواء |