الجمعة 24 شباط 2023 09:12 ص |
بالنظام - كبش الفداء |
جريمة الاستيلاء على أموال المودعين في المصارف مستمرة من دون مبادرات حقيقية للمحاسبة أو المعالجة، والمشهد الراهن يُختصر بمقاربتين واحدة تقوم على سياسة كبش المحرقة وأخرى على سياسة تهوين الشرّ أو تسخيفه. كبش الفداء كان عبر العصور حاجة للمجتمعات البشرية وعندما تحلّ بالجماعة مصيبة ذات مصدر طبيعي أم بشري كانت تلجأ إلى التضحية بشخص نموذجي تنطبق عليه صفات كبش الفداء لإلصاق الشرور به وتنفيس غضب الآلهة واسترضائها كي تتمكن الجماعة من الاستمرار ويتمكن الحاكمون من إعادة تثبيت سلطتهم على الشعب الغاضب أو الخائف. كانت هذه وسيلة ناجعة لإعطاء الناس شعوراً زائفاً بالانتقام وتحقيق العدالة ولاحقاً تطورت الفكرة من التضحية بالبشر إلى تقديم الأضاحي الحيوانية كما حصل حين عدل إبراهيم عن التضحية بابنه اسحق واستعاض عنه بكبش من الغنم. الفيلسوف وعالم الأنتروبولوجيا الفرنسي رينيه جيرار شرح الفكرة بشكل شيّق في كتابه Le Bouc Emissaire، وطقوس كبش الفداء بحسب جيرار تكمن أهميتها في حصر الانتقام وتحويل المواجهة من "الجميع ضد الجميع" إلى "الجميع ضد واحد". واختيار كبش الفداء البشري لا يكون صدفة فهو شخص يتمتع بمواصفات تؤهله لشغل وظيفة كبش الفداء. فهو يجب أن يكون بعيداً عن الجماعة المنتقِمة بما يكفي للتمكن من التضحية به وفي الوقت نفسه قريباً منها بما يكفي للشعور بأن الشرّ الكامن في قلب الجماعة قد تم التخلص منه، ويجب أن تكون الجماعة مقتنعة بأن الضحية ليس بريئاً وإلا زالت مفاعيل التضحية، كما أنه يجب أن يتمتع بصفات نافرة كالغنى أو الفقر، والجمال أو القبح، والقوة أو الضعف. هذه المواصفات تذكرنا بأسماء تُتداول اليوم في الحملات والملاحقات التي قد تكون محقّة ولكنها تندرج في إطار طقوس كبش الفداء. وما تقوم به السلطة الحاكمة برؤوسها المتعددة المتحالفة حيناً والمتناحرة أحياناً، هو محاولة التضحية بكبش فداء مطابق للمواصفات، لإيهام الناس بتحقيق العدالة وتلبية الحاجة الجماعية للانتقام، وذلك للتمكن من استكمال السطو على حقوق الناس على قاعدة التفريق بين الودائع ما قبل وما بعد الأزمة واعتبار الأولى من الخسائر والتبرّع بإعادة مبالغ زهيدة منها. لم تنجح السلطة بسبب خلاف أركانها على شخص كبش الفداء وعلى كيفية ونسبة الإطباق على الأموال وما تزال الملاحقات القضائية والحملات الإعلامية متناقضة وغير مجدية. والجدوى الوحيدة من منظار الضحية الحقيقية أي الناس، هي في إيجاد حلّ للأزمة وإن كان ذلك على مدى طويل فمن صبر وعانى ما عاناه الشعب هذه السنوات يستطيع الصبر أيضاً ولكن على قاعدة الإقرار بالحقوق والتخلي نهائياً عن النظريات التي تقول بتوزيع الخسائر لأن الخسائر توزّع على المتسبّبين بها. أما أرباب القطاع المصرفي فسعيُهم ينكبّ على تسخيف ما ارتكبوه تجاه المودعين على قاعدة أنهم نفّذوا ما قرّره النظام وأن الشرّ الذي حلّ بالناس لم يكن فكرتهم بل نتاج النظام. وهذا يذكّر بالضابط النازي آيشمن الذي نفّذ عملية "الحلّ النهائي" للتخلص من اليهود، والذي وجدت حنّة آردنت الفيلسوفة اليهودية أنه إنسان عادي ارتكب تلك الفظائع كجزء من نظام متكامل ينتسب إليه ويعمل فيه وينفذ أوامره، وخلصت أن الشرّ الكبير ممكن الحصول من أشخاص صغار عندما ينعدم الفكر لديهم. على هذه القاعدة يحاول أرباب القطاع المصرفي الاستفادة من إطفاء الودائع والخروج بأرباح السنوات السِمان دون محاسبة. لكن ذلك لا يبدو ممكناً فقد بدأت الملاحقات في الخارج ومنها ما أعلن عنه نافذون كخلف الحبتور وطلال أبو غزالة الذين وقعوا ضحيّة "الثقة" بالمصرفيين كسائر المودعين. المصدر :النهار |