لم يستطع الحدّاد العربي على أهمّيّة حرفته من أن ينحت في الغد مثلما في الذاكرة، استمراريّة هذه الصنعة التي تميّزت بأسواقها في جبل عامل، من مدينة النبطيّة إلى مرجعيون وصور وجباع وجزّين وغزت في حينه أسواق حوران وغيرها.
وسندانه الذي قوّم التواء السكك والمعاول وأحدّ أسنّة "الميابر" والأزاميل وشحذ نصول السكاكين، وعكّف تدوّر المناجل و"المجارف" والفؤوس، متناوباً بين ضرب وصدّ دون هوادة مع المطرقة والمِهدّة، بعد أن يكون نفخ النار قد جمّر كلّ صلب وحديد وتركه رهينة عصف الزنود السمر بين خبطٍ ونفضٍ. كلُّ هذا أو ذلك ترك بصماته على أبواب الخانات والمحال العتيقة وأغلاقها.
ولعب العدوان الإسرائيليّ من جهة، وتطوّر الصناعة وانفتاح الأسواق اللبنانيّة على مشارق الأرض ومغاربها، مع انكفاء مهن الفلاحة والحرث على الثيران والتحطيب والبناء الحجريّ من جهة أخرى، دوراً سلبياً في تراجع هذه الصنعة إلى حد انقراضها في معظم المدن والمناطق الجنوبية، وحلّت مكانها البضائع المستوردة بأسعار بخسة تدنّت نسبة كلفة الشحذ والصقل والتحديد والتسنين.
وشهد الأمس القريب على إقفال آخر مرابع هذه الحرفة في مدينة النبطية، ولم يبقَ من إثرها خشبة.
الصورة نحو العام 1990، (تصوير كامل جابر) وفيها آخر حدادي النبطية الراحل سميح جروان، وحفيده وليد رحّال، له طول العمر.