"صحافية لبنانية مقيمة في الإمارات"
لقد تراكم الغبار في صدري. بت أتنفس يومي بصعوبة بالغة وأرى في كل خطوة وجه أمي.
في الشوارع النظيفة هنا، لا تجد فقراء ينبشون فيض النفايات المنظم تحت طائلة القانون وتشويه المنظر العام. لا تجد كثيراً من الغيوم المكفهرة في سماء السياسة. هنا، كلٌ يعمل وفق منظومة واضحة لا تدخل فيها المحسوبيات والمحاصصة ولا حتى أحد يعرف أبعاد هذه المصطلحات.
كيف لأرض لفظتني وقذفتني إلى التيه أن تسكنني إلى هذا الحد الموجع؟
تسألني زميلة عراقية: استحضرت كل مآسي بلدي وكل ما يمكن أن يثقل قلبي تجاه العراق ولكني عجزت عن إزاحة بعض من قلبي من تلك البقعة.
كيف لهذا الحب الموجع أن يصمد رغم السهام التي تنخز قلبي كل لحظة؟
لا شيء يوقف تسلل الوطن إلى معصميك، وريدك وأنفاسك. لا فساد سياسييهِ ولا قلة حيلة مواطنيه وتقاعس آخرين عن نصرة الحق في ساحات الغضب.
الغضب في بلدي عابر، يستقرُ لثوانٍ معدوداتٍ لتعود الحياة إلى طبيعتها.في وطني، غصات نحملها في حقائب الغربة ودموع تتحجر في المقلة ونستمر نطيل النظر طويلاً في البحر الذي يسكن الجبل ونرفع اليد ملوّحين للمنازل المظلمة من علٍ ونخزّن بعض هواء- ولو ملوث برائحة البنزين وعوادم السيارات- لعله يزودنا بأوكسجين العودة.
صعب لنا أن نصدق المسافة الفاصلة بيننا وبين أوطاننا. نحمل الوطن في قلادة بأعناقنا، في علّاقةِ مفاتيح، في "تيشرت" دوّن عليه اسم عاصمتنا، في صور وفيديوهات وفي ذاكرة صعبة المراس عصية على النسيان وحتى في زجاجة ماء "صنين" المستوردة من الوطن.
تطعمنا الغربة خبز أيامنا ويطعمنا الوطن زاد القلب.لا نقيم وزناً ليومياتنا ولا نستقر عند حدود التعود على أننا غرباء. سنعود يوماً ما لنحضن الأرض ونقبل جبين أمهاتنا وآبائنا.
يأخذنا التفاؤل بعيداً: سنعيد ترميم ذاكرتنا ونعيد ترميم العمر العابر في البلاد البعيدة ونعيد بعض شبابنا لنتسكع في الأزقة ومخيمات اللاجئين وشوارع الحمراء وفردان ووسط بيروت.
فالسير في مناطق من التناقضات لا يفاجئك كثيراً .هنا تلال من" النفايات النظيفة" التي تشكل زاد بعض الفقراء من أحياء ثانية وهنا السيارات الفارهة ومن الجانب الآخر يتمختر "جحش الدولة " والفانات الخاصة لتقل الطلاب والعاملين والموظفين الذين اكفهرت وجوههم من أجل ما يقّل عن حصاد 50 دولاراً في آخر الشهر .
في الوطن الذي نحبه وجوه طيبة تحنو على الآخر وتقسو على نفسها وهناك أمي التي لم تغير غربة أبنائها منها شيئاً ولم تقسها الأيام : زادت التجاعيد عمقاً وبقيت دموعها عالقة عند مفترق الوداع ...تودع ابنتها ومن ثم تحزم حقيبة آخر و"تخفي" في طياتها بعض مؤونة يديها وتنتظر أن تعود ابنتها الصغيرة لتعد لها بعض "طبخات" تقليدية قد تكون نستها في لج الغربة .
تغضب تلك المرأة قليلاً ولكنه غضب عابر كباقي الأفراد في هذا البلد .تغضب ثم تبرر ثم تعود لتنتقد وتهدأ ومن ثم تعود لتفكر وتسأل وتشتم بصوت مرتفع :"الله لا يوفقهم !غربوكم عني ".
من هم الذين تدعو عليهم أمي بعدم التوفيق . ما هذا الغضب الراقي حتى في الدعاء وأي عدم توفيق مع أفراد لا يعرفون الله؟
تراكم الغبار في صدري حتى باتت أكوام الحسرة تلالاً والغصة تنهش خلايا دمي . في شوارع غربتي لا يمكنني التسكع .فلا شيء قادراً على ملءِ خزان القلب ولا صور تستدعي أن أنبش الذاكرة وأنا أطل على مفترقات العمر المهدر.التسكع لغة الفقراء والمهمشين وأنا في يدي بضعة "دولارات" ومسكن يأويني وخبز يكفي يومي وغدي.