لم يستسلم المربي حبيب جابر (1928- 2010) يوماً إلى الضجر؛ فكلما كانت تضيق حوله مساحات الحوار، كان يلجأ إلى الكتب والمخطوطات منقّباً في تفاصيلها، باحثاً عن الحقائق والمدلولات، متذكراً سنوات المهنة والسياسة.

وتداركاً للأيام الضائعة هدراً، حقّق حبيب جابر سلسلة من مخطوطات جبل عامل وكتب الشعر، بعد تجربة بدأت برسالة الطّيف، من القرن السادس الهجريّ، لعليّ بن موسى الأربليّ، ففتحت شهيّته الثقافيّة على الغوص في أتون الأوراق "المهترئة والعفنة، والتحقيق في مفرداتها، ونفض الغبار عن أسطرها وكلماتها، "لتصير لاحقاً كتاباً جاهزاً للطّبع؛ وهذا ما حصل، إذ أصدر ستة كتب محقّقة، وأعدد مخطوطتين أخريين؛ و"لعمري، إنّ الكتب والمخطوطات هي أفضل ألف مرّة من الخيبات السياسيّة والاجتماعيّة، التي مُنينا بها على مدى عمرنا السياسيّ وفي الوظيفة والتعليم" والكلام للأستاذ حبيب في لقاء سابق.

كانت آخر إبداعاته الذاتية، كتابة مذكّرات التعليم والسياسة والثقافة، انطلاقاً من "الكتّاب" الذي تعلّم فيه على يد الشيخ عبدالله مروّة، التحاقاً بأشقّائه الأكبر سناً؛ ثمّ إلى تفاصيل الدراسة والعائلة والتدريس واهتدائه إلى التحزّب، ليغدو من الشيوعيّين الأوائل، هو وثلّة من الصحب وأتراب الدراسة على يد معلّميهم الأوائل: السيّد جعفر الأمين وحبيب طه وسامي صبّاح، العام 1943؛ على أثر تأسيس الحزب الشيوعيّ في مدينة النبطية.

هذا الجنوح اليساري، لم يجعل حياة الشاب المعلّم سهلة، بل رمى به على سكّة الإبعاد والإقصاء والإعتقال، أكثر من مرّة، التي كانت تمارسها الحكومات السابقة المتعاقبة آنذاك بحقّ النقابات والحزبيّين، لا سيّما اليسارييّن الشيوعيّين، فلم يهدأ في مدرسة أكثر من سنة أو اثنتين. ومن تعيين "إبعادي" فوريّ بعد تخرّجه من دار المعلّمين والمعلّمات سنة 1947، في مدينة بعلبك التي تبعد عن النبطية عشرات الكيلومترات، يعود إلى مسقط رأسه بعد سنة، وسرعان ما ينقل تأديبيّاً في السنة التالية إلى مدرسة القصيبة (النبطية) ثم يعود بعد سنتين إلى النبطية.

في العام 1952، وفي زمن حكومة الرئيس صائب سلام نُقل تأديبيّاً هذه المرّة إلى دير الأحمر(بعلبك)، بعد توقيفه ستّة أشهر عن التعليم، وفي السنة التالية ينقل إلى مدرسة بعلبك ثانية؛ ثم العام 1956 إلى مدرسة البسطة التحتا الرسميّة (بيروت)، ولضيق المساحة المذهبيّة وتنامي يد الكتائبيّين، يختار أن يكون من ضمن البعثة اللبنانيّة التي يمّمت وجهها شطر المملكة المغربيّة بتاريخ 25 تشرين الثاني سنة 1957 "ومن النبطية كان معي الزميل والصديق الراحل عبد الحسين حامد، فعيّنت أنا في "الجديدة" وهو في "أغادير" بعيداً عني نحو ألف كيلومتر. وبعد سنة رحت إلى الدّار البيضاء، لأعلّم هناك اللغة العربيّة والقرآن بدلاً من مادة تخصّصي، اللغة الفرنسيّة؛ وعدت بعد سنتين (1959) إلى مسقط رأسي النبطية لأتنقّل مجدّداً بين مدارسها".

ومن المدرسة التكميليّة، إلى أوّل مدرسة نموذجيّة في النبطية التي صار مديراً لها مدّة 12 سنة، في مطلع السبعينيّات، بيد أنّه في السنة الأولى صُرف مع 308 معلّمين من رفاقه، الذين نفّذوا اعتصامات مدّة ستّة أشهر في كلّيّة التربية، حتّى تراجعت الدولة عن قراراتها. وقبلها أنهى دراسة الحقوق في الجامعة اللبنانيّة بين 1963 و1967.

لكن "كلّ هذا النضال المطلبيّ والتعليم من مدرسة إلى مدرسة، أكثر من 35 عاماً، لا سيّما في مسقط رأسي النبطية، والإبعاد، وأيام الاعتقال، والتفاني في تعزيز الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة وتأسيس الأندية والجمعيات، لم تؤتِ أكلها عند من عبروا في صفوفي أو درّستهم أو عاشرتهم؛ فقد ترشّحت إلى المجلس البلديّ في مدينة النبطية العام 1995، أنا وبعض المعلمين، وإذ بأصوات الناس تذهب نحو وجوه لم يعرفوها أو يألفوها، لو أنّ الذين علّمتهم فقط، وعلّمت أوليائهم، منحوني أصواتهم، لكنت الأوّل في النتائج، إلاّ أنّ الناس تتناسى أمام مصالحها الآنية، لتحدل مع الحادلين والمحادل حقوقَها ومصالحَها العامّة؛ لذلك لم أجد صديقاً في هذه الأيام القحط، غير الكتاب خير أنيس في الأنام؛ فأطالع بكثافة، أكثر من عشر ساعات يوميّاً في معظم الأحيان، عائداً إلى المراجع ومتون الكتب من أجل تحقيق المخطوطات".

كان حبيب جابر يتحسّر على منابر النبطية الثقافيّة والاجتماعيّة، التي كانت سرعان ما تدخل في سبات عميق، مع العلم أنّ النبطية في ذاك الوقت كانت زاخرة بحشد كبير من المراجع الفكريّة والثقافيّة والدينيّة، المتنافسة نحو ثقافة فكريّة أرقى "شعرت وكأنّ للنبطية "قرينة" أندية، فلا تدوم، لذلك سعيت بكلّ جهدي لتأسيس نادي الشقيف (1963)، الذي بدأ من فكرة فرقة للرقص الشعبيّ، مع ثلّة من الأصحاب: عاطف الصيداويّ، حسّان كحيل، محمّد جميل سلّوم، كمال بدر الدين وشادية زيتون، ولم يكن اسمي بين المؤسّسين بسبب اللعنة السياسيّة حوله التي جعلته على اللائحة السوداء عند الدولة؛ ولأنّ المنطقة معروفة بمنطقة الشّقيف، أطلقتُ عليه هذه التسمية، وجعلتُ مقرَّه أوّلاً بين بيتي وبيت حسّان كحيل، ثمّ في منزل توفيق فخر الدين، فإلى بناية أنيس فهد، ليحلّق النادي عالياً ونبني له صرحاً بمساهمة أموال المغتربين من أبناء النبطيّة والجنوب".

من أجل نادي الشقيف، ناضل حبيب جابر فكان أوّل رئيس له سنة 1964 عقب مرحلة الهيئة التأسيسيّة. وبعد غياب سنوات عن منصب الرئاسة عاد في العام 1983 إلى تسنُّم مقاليدها من جديد وقد استمر في هذا المنصب إلى العام 1991.

 "بعد دخوله في الكوما أكثر من مرة، حاربنا من أجله كثيراً، حتى صُودرت هويّته لاحقاً وبخطّة منظّمة ومدروسة من قوى الأمر الواقع" يقول. ومن رئاسة نادي الشقيف، إلى رئاسة فرع المجلس الثقافي للبنان الجنوبي في النبطية (1993- 2004)، إلى عضوية مجلس النجدة الشعبيّة اللبنانيّة، إلى وإلى... وكلّما كان شعر حبيب جابر بالتعب، يجعل لنفسه هدنة تزيد في حماسته للدخول متون المخطوطات والكتب، فأسّس "صومعته" عند مطلع حيّ البياض، قريبة من السكن، ومن أجل ذلك، انكبّ على كتابة مذكّراته، من الألف حتّى الياء؛ مستشهداً بالأسماء والتواريخ والأحداث، تحت عنوان "حصاد الثمانين".

ولزوجته غفران سعيد جواد، التي اقترن بها سنة 1953 قبل أن تتجاوز الرابعة عشر، حيّز من هذه المذكّرات، وكذلك لأبنائهما: رحاب وسلام وبهيجة وعمّار وبشّار الذين امتهن معظمهم مهنة الوالد، التعليم. قبل نحو سنة من رحيله، وفي شهر آب 2009 فاجأ المرض السيّدة "أم عمّار" ولم يمهلها كثيراً، فغادرت دنيا عائلتها وتركت في قلب الأستاذ حبيب وجعاً لا يوصف، ما زاد في حدّة مرضه.

وساما اعتقال

كان حبيب رشيد جابر يعتبر أن وسامين اثنين نالهما خلال سنيّ عمره من الدولة اللبنانّية، شكّلا وصمة عار على جبينها؛ المرة الأولى في مناسبة أضراب المعلّمين؛ يوم اعتقلته في العام 1954 وزجّت به مع جماعة من أترابه، ثمانية أيام في سجن القلعة في صيدا. ثم أخلي عنه بسند إقامة وكفّ يده ستّة أشهر عن التعليم ثم الحكم عليه بالحبس مدّة شهر مع وقف التنفيذ وتغريمه جزائيّاً بعشر ليرات لبنانيّة.

أمّا المرّة الثانية فكانت عشيّة الانتخابات النيابيّة العام 1968 واقتيد مخفوراً مع عدد من اليساريّين إلى سجن ثكنة عين الحلوة قرب صيدا.

 

من "حصاد الثمانين"

"… لم يكن قد مضى على عودتي إلى النبطية وقت قليل، حتى أعلنت الهيئة التعلميّة في لبنان (4000 معلم) الأضراب الشامل عن العمل، ذلك الاضراب الشهير الذي كنت من الدّعاة إليه طلباً لحقوق مشروعة. استنفرت السلطة كلّ أجهزتها القمعيّة واستعملت كلّ وسائلها الردعيّة، من دون جدوى، فعمدت إلى اعتقال بعض المعليمن ممن وصفتهم المحرّضين على الاضراب، وزجت بهم في السجون، من طرابلس إلى بيروت وصيدا والنبطية وغيرها من المناطق.

كنت في النبطية بين من اعتقلوا: عادل صبّاح، فؤاد كحيل، احمد فخر الدين، مصطفى الحاج علي وحسين توفيق صبّاح. أحالتنا السلطات إلى المجلس التأديبيّ بعد أن كفّت أيدينا عن العمل، ثم أدخلنا سجن النبطية لليلة واحد، ليتمّ سوقنا إلى سجن القلعة في صيدا حيث ألقينا في القاووش رقم 3، المعدّ في عرف السجّانين للقتلة والسارقين ومرتكبي الأفعال الشنيعة ومتعاطي المخدّرات. تصوروا معي كيف عاملتنا السلطة وكأنّنا قطّاع طرق أو رجال عصابات خارجة على القانون".

 

كرّمه المجلس الثقافي بتاريخ 01/08/2009، تحدّث في التكريم المحامي سمير فياض والأديب جواد صيداوي والمربّي مصطفى الحاج علي، بعدها قدّم أمين عام المجلس حبيب صادق درع المجلس تقديراً لعطاءات حبيب جابر "التربويّة والاجتماعيّة والفكريّة، باسم الهيئة الإداريّة للمجلس الثقافي". متسائلاً: "ماذا يقول مثلي في مثله؟ وماذا يقول الشقيق في شقيقه الأقرب؟ وماذا يقول الرفيق في رفيق الدرب والشوق والكلمة الأدبيّة المسؤولة؟ لا شيء؛ الصمت في هذا المعرض هو البيان البليغ".

 

صدر له:

- تحقيق "رسالة الطّيف" لمؤلّفها علي بن عيسى الإربلي، 1996.

- تحقيق، "ديوان الشاعر الزجليّ توفيق عبد الكريم صباح (1896- 1975)" من منشورات المجلس الثقافي للبنان الجنوبيّ، الطبعة الأولى: بيروت 1999.

- تحقيق، "ديوان الشاعر جعفر محسن الأمين (1908- 1981)"، دار الفارابي والمجلس الثقافيّ للبنان الجنوبيّ، الطبعة الأولى: بيروت 2002.

- تحقيق "الديوان المنبي في مدح أعيان آل الصّعبي" الطبعة الأولى: بيروت 2002.

- تحقيق، "نزهة الأنفس في محاورة الورد والنرجس" للعلامة الشيخ أحمد رضا (1872- 1953)، المجلس الثقافيّ للبنان الجنوبيّ، الطبعة الأولى: بيروت 2003.

- تحقيق، "طرفة الطرائف وزبدة المعارف" للعلامة الشيخ أحمد رضا (1872- 1953) منشورات مؤسّسة الانتشار العربي والمجلس الثقافيّ للبنان الجنوبيّ، الطبعة الأولى: بيروت 2006.

- تحقيق "سوق المعادن وكلّ ما يسرّ الأفئدة والمُقل" للعلامة الشيخ محمد علي عزالدين (1301هـ/ 1884 م)، منشورات مؤسّسة الانتشار العربي والمجلس الثقافيّ للبنان الجنوبيّ، الطبعة الأولى: بيروت 2010.

- حبيب جابر "حصاد الثمانين" دار الفارابي والمجلس الثقافيّ للبنان الجنوبيّ، الطبعة الأولى: حزيران 2014.