يرحل الأبطال الكبار، وتبقى ذكراهم المجيدة العطرة في الوجدان، وفي ضمير كلّ حيّ.
يكفي أن تقصّ على الملأ حكاية "حي التعمير" في النبطية، لينحني أمام عظمة ما فعله في ذاك الزمن، سنة 1958 عادل صبّاح (1924- 08 حزيران 2008) ليستر عائلات شبه معدمة في بيوت، كانت معدة للأزلام والمحاسيب، ومع ذلك حرّمها على نفسه وهو من دون بيت خاص فيه، تحت عنوان: هناك من هو أَوْلى مني.
الكلام على عادل أحمد صبّاح، المناضل اليساريّ الشيوعيّ، لا ينتهي عند قضيّة حيّ التعمير في النبطية، بل يتشعّب إلى أبعد بذلك بكثير، إلى قبل ذلك بكثير، منذ بدأ نضاله مُطارَداً من جلاوزة السلطة، لتطرده تعسفيّاً من وظيفته في التعليم الرسمي سنة 1957، بعد 11 سنة في التعليم أمضى معظمها منفيّا "تأديبيّاً" من منطقة إلى منطقة. ثم قيادته ثورة سنة 1958 في النبطية والجوار، نضاله مع الفلاحين ومزارعي التبغ، مع مطالب الأساتذة والعمال ومع صاحب كل حاجة، ومن أجل فلسطين وقضية فلسطين وأهلها، هذا إن لم نعد إلى سنة 1943 حينما مزق العلم الفرنسي المرفوع على مركز الأمن العام الفرنسي في النبطية واعتقل على أثر ذلك.
خمسة عشر عاماً مرّت يا "أبا أحمد"، وصوتك ما دام يجلجل في النبطية، في أحيائها وطرقاتها وعلى منابرها، وما زلت حاضراً، كلّما اشتدت بنا الحاجة إلى وقفة عزّ وعنفوان، إلى صوت الضمير وإلى كرامة الإنسان في عاصمة جبل عامل وأرجائها المفتوحة على حّبك وعلاقاتك وارتباطاتك الموثّقة بالصدق والوفاء مع المئات المئات من الفئات الإنسانيّة المختلفة، الصاغية بإجلال إلى آرائك الحكيمة وكلماتك الرنّانة في المواقف السياسيّة والاجتماعيّة والصحّيّة والمعيشيّة وغيرها في كلّ ما يهمّ المواطن في مواجهة الحرمان والعدوان.
في ذكراه، في العام المنصرم، وعلى هامش معرض للصور الفوتوغرافية عن مراحل نضال عادل صبّاح ورفاقه، قلت في كلمة مقتضة:
"لم يحصل كثيراً أنّ رجلاً لم يغادر مدينته بالرغم من تواتر السنين مثل عادل صبّاح، هذا لأنّ المناضل الأستاذ عادل صبّاح كان منغمساً في مجتمعه إلى أبعد الحدود، في ضمير ناسها، يمارس نضاله على مختلف المستويات تماماً مثلما كان منسجماً مع ذاته، لذلك أثّر في محيطه وفي أصدقائه وفي كلّ من عرفه تأثير المطر في الأرض العطشى للماء كي ينبت الزرع.
تشكّل الأحزاب السياسية في لبنان محاور السياسة والاقتصاد والنضال الفكريّ وربّما العسكريّ، ويدور في فلكها المحازبون المؤيّدون أو المعارضون، لكنّ عادل صبّاح استطاع من خلال إيمانه بعقيدته وإخلاصه إلى بيئته اليساريّة وإلى مجتمعه المتنوّع بألوانه وعقائده أن يشكّل محوراً بعينه، إيجابيّاً قابلاً لامتصاص الصدمات، ممعناً في اجتراح الحلول، ولهذا كان محبوباً من الجميع، مقبولاً من الخصوم قبل الأصدقاء..
في يتمِ النبطية والجوار إلى الوجوهِ الثوريّة الأصيلةِ، يحضرُ دائماً المناضل الأستاذ عادل صبّاح كمصباحٍ مدادهُ لا ينضب، ينير الحُلكة التي باتت تطوّقنا من كلّ الجهات، من كلّ حدب وصوب، والناس إمّا نيام يرمّمون، من خلال انغماسهم في أحلامهم، ثقوب الماضي والحاضر، وإمّا متلهّون بالماء والكهرباء والمحروقات والغذاء وبلون السماء…
في 8 حزيران 2008، رحل عادل صبّاح متمّماً ثورته ورسالاته الإنسانيّة والأخلاقيّة التي سادت في زمن كانت الثورة ميزته، والثوّار يتنافسون في الدفاع عن الوطن وحقّ أبنائه في عيش كريم يتساوون فيه بالحقّ والواجبات والإنماء المتوازن…
لم يغبْ عادل صبّاح، إذ إنَ نوره ما زال يسطع كمثال لمن أراد أن يبقى على عهد النضال والكفاح بمختلف وجوهه… وسيبقى نبراساً لأجيال وأجيال..
لذلك، سنبقى نلتقي حول اسمه وأفعاله اللذين تركا في ذاكرة النبطية وأفقها المستقبلي خميرة ثوريّة وحزبيّة، وقبل هذا أو ذاك، تركا خميرة إنسانيّة ستتداولها الأجيال إلى أمد بعيد