عندما ينخر الفساد إدارات السجون والوزارات الراعية لها، يصبح النقص الغذائي وشح الموارد الطبية والاكتظاظ نوعاً من التعذيب الجسدي والمعنوي. فلا يقل حرمان نزلاء السجون من الطبابة خطورة وقساوة عن التعذيب الجسدي المباشر. كما لا يقل زج المئات منهم في غرف صغيرة، وحرمانهم الغذاء والمياه وقضاء الحاجات الشخصية، إجراماً عن كثير من الجرائم التي ارتكبها النزلاء أنفسهم.
الفساد ينخر السجون
لا تقتصر جرائم التعذيب على التعرّض بالأذى الجسدي والنفسي لنزلاء السجون، بل تتعداه إلى شيوع الفساد وسوء إنفاق الأموال على السجون. وفي ظل التقصير الهائل بحق نزلاء السجون في لبنان، لجهة نقص الغذاء والطبابة وغياب النظافة والاكتظاظ، رُب سؤال يفرض نفسه حول مالية السجون وإداراتها، كم تبلغ موازنات السجون في لبنان؟ وما هي المساعدات المالية والعينية التي تصلها؟ وكيف تُنفق تلك المساعدات؟
الإجابات على كل تلك الأسئلة يختصرها مصدر موثوق في وزارة المالية بالقول “لا أحد يعلم”. فموازنات السجون يتم اقتطاعها من موازنات الوزارات التابعة لها. وهي وزارتا الداخلية والدفاع. ويوضح المصدر في حديث إلى “المدن” أن القروض والهبات والمساعدات لا يتم التدقيق بصرفها، وذلك بموجب المادة 7 من قانون الموازنة العامة، الذي يتيح صرف القروض والهبات الخارجية من خارج الموازنة، وذلك من العام 2000 وحتى العام 2022. وعليه لا أحد يعلم أين وكيف صُرفت المساعدات والقروض التي وصلت إلى السجون، ولا مَن يراقب.
شهادة سجين
يلتقي حديث المصدر من وزارة المال مع شهادة سجين، يؤكد فيها أن نزلاء سجن رومية يعملون على تأمين مياه ساخنة للإستحمام في الشتاء من خلال وضع سلك كهربائي في المياه. وهو أمر يعرّض حياتهم للخطر. والسبب أن لا كهرباء لتسخين المياه في سجن رومية.
هذا الأمر يعيدنا إلى هبة بقيمة 100 ألف دولار كانت قد تقدّمت بها دولة أوروبية في وقت سابق، لتركيب نظام الطاقة الشمسية في سجن رومية، مخصص لتأمين المياه الساخنة. وهو ما لم يحصل حتى اليوم!
عينة أخرى عن تغلغل الفساد في ملف السجون وإدارتها، ترتبط بعدم تنفيذ قانون برنامج يتعلّق ببناء سجنين نموذجيين في منطقتي الشمال والجنوب. ولم يتم تبرير الأمر ولا حتى التطرق له من قبل وزراء الداخلية المتعاقبين.
ويسأل مدير مركز حقوق السجين في نقابة المحامين في طرابلس، والمدافع عن حقوق الانسان، المحامي محمد صبلوح في حديث إلى “المدن”: أين تُعمّم الموازنات المالية التي توضع للسجون والمساعدات والهبات؟ من يراقب آليات صرفها؟ ومن يحاسب سوء إدارة السجون؟
من هنا يرى صبلوح أن على المجتمع الدولي ربط المساعدات بأهداف معينة ومراقبة تنفيذها.
الفساد يعزز عوامل التعذيب
ويرى صبلوح أن سوء التغذية وغياب الطبابة والاكتظاظ، وغياب الرعاية والتأهيل.. كلها من أشكال التعذيب والتعرض الجسدي والمعنوي: “فالسجين الذين يتم سجنه في مركز، من المفترض أن يعمل على إصلاحه وتأهيله، يكرّس حرمانه من أبسط مقومات العيش ومن حقوقه الأساسية، فيزيد مشاكله”. وهذا ما يندرج تحت خانة التعذيب النفسي الذي يفوق بخطورته التعذيب الجسدي.
وحسب أرقام منظمة العفو الدولية، ارتفعت معدلات الوفاة في السجون اللبنانية من 18 سجيناً عام 2018 إلى 34 سجيناً عام 2022. وهي زيادة هائلة. أما أسباب الوفاة فتعود حسب صبلوح إلى سوء الطبابة وغيابها كلّياً في كثير من الحالات المرضية. ورغم مطالبة وزارة الداخلية بفتح تحقيق بالتقصير الاستشفائي الحاصل بحق السجناء، لم تحرّك ساكناً.
مخاطر الاكتظاظ
وليس نقص الغذاء والاستشفاء وحده ما يعرّض كرامة نزلاء السجون للإنتهاك، وحياتهم للخطر. فالاكتظاظ يجعل من السجون عرضّة لكل أشكال العنف والمرض. وتفيد أرقام وزارة الداخلية أن نسبة الاكتظاظ في السجون عموماً تفوق 100 في المئة. أما في نظارات قصور العدل فتفوق النسبة 118 في المئة. وتتفاوت معدّلات الاكتظاظ بين سجن وآخر. ففي سجن جزّين تفوق نسبة الإشغال 234 في المئة. وفي سجن جبيل تقارب 217 في المئة.
وفي النظارات حيث لا يجب أن يبقى فيها الموقوف لأكثر من 48 ساعة، فإنها تواجه اكتظاظًا مخيفاً، ومنها ما تحوّل إلى سجن. فيقبع فيها الموقوف لأكثر من سنة أو سنتين. علماً أن بعض النظارات لا تتسع لأكثر من شخصين فيتم توقيف 5 أشخاص فيها.
وإذ يحذّر صبلوح من الإهمال المتمادي في السجون التي باتت أشبه بالقنابل الموقوتة، يؤكد أنه مع بدء موسم الصيف وارتفاع الحرارة، بدأ مرض الجرب بالانتشار بين نزلاء السجون. ويقول محام آخر يتابع ملف ضحايا التعذيب في السجون “لا يمكن للكلاب أن تعيش بالشكل المفروض على السجناء في لبنان”. فالغرف قذرة جداً. لا مياه ولا نظافة، حتى المراحيض لا يفصل بينها وبين النزلاء سوى قطعة قماش بسبب الاكتظاظ. ومنهم من يتناوب على النوم مع زملائه لعدم توفر أماكن للجميع. والأسوأ من ذلك هو أن هناك سجناء لم يلمحوا الشمس منذ 5 سنوات.
لا تكترث السلطات الرسمية في لبنان لارتكابات التعذيب، إن كان تعذيباً جسدياً أو نفسياً أو انتهاكاً لحق إنساني، ما يدفع الجمعيات الإنسانية إلى لعب دور الدولة وسد جزء من المهام والمسؤوليات الموكلة إليها. ومن بين الجمعيات التي تقدّم خدمات انسانية واجتماعية وقانونية للسجناء جمعية Restart وجمعية عدل ورحمة.
ولا تقتصر خدمات ريستارت على تقديم المساعدات والدعم للسجناء، وتغطية احتياجاتهم المادية والنفسية، بل تعمل على تأهيل ضحايا العنف والتعذيب، استناداً إلى المادة 14 من اتفاقية مناهضة التعذيب التي تتناول أهمية التأهيل والتعويض للضحايا.
التقصير القضائي
عند الحديث عن اكتظاظ السجون لا بد من التطرق إلى موضوع نِسب السجناء المحكومين وغير المحكومين. وحسب أرقام وزارة الداخلية، تفوق نسبة السجناء غير المحكومين في كافة السجون 60 في المئة، في حين أن نحو 40 في المئة فقط محكومون. من هنا يمكن القول أن مسؤولية ممارسة التعذيب الجسدي والنفسي وانتهاك حقوق السجناء لا تقتصر فقط على السلطة السياسية إنما على القضاء أيضاً. فالاكتظاظ يرتبط بشكل أساسي بغياب المحاكمات، والمماطلة من قبل القضاة ببت ملفات الموقوفين.
ويذكّر صبلوح بإخفاق كل محاولات التخفيف من اكتظاظ السجناء. ويقول “منذ سنوات رفعنا الصوت للحكومة ومجلس النواب والقضاء وإدارة السجون، ولا آذان صاغية على الإطلاق. وقد اصطدم قانون العفو العام وخفض السنة السجنية بالعقبات الطائفية”، متسائلاً “لو أن أحد أبناء المسؤولين في السجن، هل كانت السلطة لتتعامل مع قضية المساجين بهذا الاستهتار”.
ويتّهم صبلوح القضاء بشكل علني بعرقلة دعاوى التعذيب، والسماح لمرتكب جريمة التعذيب بالإفلات من العقاب، “وعندما تُرمى دعاوى التعذيب بالأدراج، ويتم التعامل معها بعقلية متناقضة مع دولة مؤسسات ورعاية، يُصبح القاضي هو المسؤول المباشر”.