الجمعة 25 آب 2023 13:52 م

بالنظام - توازن القِيَم


* جنوبيات

النقاش بشأن الرقابة على أنواع التعبير عن الرأي في #لبنان وجميع دول العالم لم يتوقف في العقود الماضية ولا ينفك يتصاعد مع تزايد الوسائل والوسائط الحاملة والناقلة للمواد التعبيرية المترافقة مع ثورة تكنولوجيا المعلومات وعولمتها. الانقسام كان وما يزال بين فريقين، واحد مطالب بإلغاء كل أشكال الرقابة تحت عنوان الاعتقاد بالحرية المطلقة التي لا تحتمل أي نوع من أنواع الرقابة المسبقة أو المنع، ويعتبر مؤيدوه بأنه يجب ممارسة حرية التعبير على إطلاقها وأنه يعود للمتلقّين الحكم على المادة بأنها جيدة أو سيئة، وأنّ الرقابة تكون قضائية لاحقة إذا ما تضمنت المادة إساءةً أو انطوت على جرم جزائي. أما الفريق الثاني فهو يمثل عادة وجهة نظر السلطات التي تميل بصورة طبيعية إلى محاولة التحكم بالتعبير وبوصول المعلومات إلى المتلقين تحت عنوان حفظ الأمن والنظام وتتمسك بالنصوص التي تعطي السلطات صلاحيات معينة في الرقابة على أنواع التعبير.


لا شك أن الثورة الرقمية وتعدد وسائل المعرفة والاتصال أفقدت الرقابة بمعناها ووسائلها التقليدية التي نشأت في أواسط القرن الماضي والنصوص التشريعية التي نظمتها، الفعالية التي كانت لها، وأصبح الضبط أو المنع المسبق شديد الصعوبة إن لم يكن مستحيلًا. ولكن النقاش ازداد ضراوة مع وصول المفاهيم المستجدة من الغرب الآخذ في الانزلاق إلى هاويات حضارية سحيقة في مواضيع الأنواع والأجناس والحريات المتعارضة مع مفاهيم العائلة والقيم الأخلاقية.

على المستوى العالمي ثار نقاش عن صراع الحضارات وظنّ البعض أن الانقسام الطائفي عندنا هو أحد تجليات ذلك الصراع لا سيما في مرحلة الحرب الأهلية التي اعتبرها البعض صراعًا بين ديانتين (يصف "ألان غريش" كيف قارب الباحثون الغربيون أحداثًا ك#الحرب اللبنانية و#الثورة الإيرانية وغيرها في سياق بروز خطر صراع الحضارات في كتابه "الإسلام والجمهورية والعالم").

ليس في لبنان صراع حضارات بالمعنى المقصود من هؤلاء، ذلك أنه، في موضوع حرية التعبير، إذا كان المجتمع اللبناني يعرف انقسامًا بين مؤيدين للحرية المطلقة ومتمسّكين بالقيَم على خلفية دينية، فهذا الانقسام لا يقوم على توزّع مرتبط بالانتماء الديني بل يتكوّن كل فريق، إذا صحّ التعبير، من مؤيدين من جميع الخلفيات الدينية.

هذه المسائل عندنا لها في الحقيقة أبعاد سياسية آنية ولا تتصل بصراع الحضارات المزعوم، وحين خرج وزير الثقافة #محمد مرتضى للمطالبة بمنع عرض فيلم سينمائي، لم يبرز المؤيدون والمعارضون لهذا الموقف على انقسام ديني بل تبيّن أن بعض من وافقه أو عارضه من منطلق الموقف من انتمائه السياسي.

غالبية الشعب اللبناني تتمسك بالمفاهيم التقليدية للعائلة ولن تقبل باستيراد وتشريع كل ما يحصل في الغرب راهنًا ولكن هذه الغالبية نشأت على حرية التعبير والحق بالمعرفة، ولهذا لن تتقبل فكرة المنع بقدر تمسكها بتلك القيم. وعلى رغم تكوّن الشعب اللبناني من طوائف دينية وبصرف النظر عن عمق هذا الانتماء وعن درجات الإيمان والممارسة المتفاوتة، تبقى مسألة الحرية والرقابة عليها بطبيعتها مسألة مدنية وشأنًا عامًا لا تقرره الطوائف ككيانات دينية بل تقرره السلطات العامة.

هذه السلطات وفي مقدمتها السلطة التشريعية مدعوّة إلى تطوير التشريع بما يتناسب مع التطور التكنولوجي ويعبّر عن توق الشعب اللبناني بتنوعه. وعلى المشترع أن يقيم التوازن بين القِيَم: حرية التعبير والحق بالمعرفة والحصول على المادة التعبيرية، وقِيَم العائلة التي يتمسك بها اللبنانيون. وإلى ذلك الحين تُطبّق الإدارات المعنية القوانين النافذة كما تفعل لجنة مراقبة الأشرطة السينمائية التي فعّلت المديرية العامة للأمن العام عملها منذ سنوات وما تزال.

المصدر :النهار