السبت 26 آب 2023 11:34 ص |
طلال سلمان … القلب الأبيض والورق الأسمر والحبر الأزرق |
* صقر أبو فخر
طلال سلمان أحد أبرز الصحافيين العرب، ومؤسس صحيفة السفير التي تُعد بحق إحدى ألمع التجارب الصحافية التي عرفها العالم العربي في تاريخه المعاصر. ومن يعرف طلال سلمان يدرك أنه أديبٌ متوارٍ سرقته الصحافة من الأدب في ذروة ازدهارها في أواخر خمسينيات القرن المنصرم. وهو من بين صحافيين عرب قلائل تطلع، منذ بداياته المهنية، إلى أن تكون الصحافة منبرًا حرًا للتعبير عن الرأي، وميدانًا لتأكيد التزامه القضايا الوطنية والقومية والاجتماعية. وحين تمكّن من تحويل حلمه بتأسيس صحيفة مستقلة إلى حقيقة بعد 18 سنة من مُعاركة الكلمات، عمد إلى جعل صحيفته منبرًا حقيقيًا لقضايا العرب ولقضية فلسطين. وبهذا المعنى، كانت “السفير” مختبرًا مهمًا للأفكار والآراء، وفي أفيائها وطوال أكثر من 40 سنة اشتعلت مجادلات فكرية وسياسية، ما كانت لتنتهي البتة، وفيها تلاقحت خلاصاتٌ شتى لتجارب فكرية وثقافية عربية ولبنانية، الأمر الذي جعلها، بجدارة، تجربة نادرة في الصحافة العربية، ولا سيما حين تمكّنت من جمع اللبناني إلى الفلسطيني إلى السوري والمصري والعراقي والأردني والتونسي في لوحة واحدة. بدأ وعيه السياسي يتبرعم في الأجواء التي أعقبت ثورة 23 يوليو (1952) في مصر التي كان لها التأثير الأكبر في جذب انتباهه إلى السياسة. وعلاوة على ذلك، فتح وجوده في مدرسة بلدة المختارة الشوفية في أوائل خمسينيات القرن العشرين، وهي مقرّ زعامة آل جنبلاط في الجبل اللبناني، عينيه على بعض جوانب الواقع اللبناني، فعايش أول “انقلابٍ” سياسي لبناني ضد حكم الرئيس بشارة الخوري في سنة 1952. وفي بلدة المختارة، تعرّف إلى كمال جنبلاط الذي كان مُلهِمًا لجيل كامل من الشبان اللبنانيين التائقين إلى العدالة الاجتماعية، وإلى ربط لبنان بقضايا العرب والعروبة وفلسطين. وفي هذه الأجواء المتلاطمة، بات طلال سلمان قوميًا عربيًا من دون الانخراط في أيٍّ من الأحزاب القومية، كالبعث مثلاً، مع أنه صار لاحقًا قريباً، على المستوى الشخصي، من مؤسّسي حركة القوميين العرب أمثال جورج حبش وهاني الهندي علاوة على غسّان كنفاني ومحسن إبراهيم. شغف بالكلمات منذ طفولته، وسحرته الكتب القليلة في منزله الوالدي، وصفحاتها المملوءة بالحكايات والأفكار والمعارف. ومنذ دراسته الثانوية، افتتن بالصحافة والكتابة، وراح يكتب بعض المقالات والخواطر في مجلة الأنباء، الناطقة بلسان الحزب التقدمي الاشتراكي. وحين أنهى دراسته الثانوية في 1955، منحه والده أربعين ليرة لبنانية (نحو 200 دولار بأسعار اليوم) وقال له: “تدبّر أمرَ تعليمِك الجامعي وسكنك، فهذا كل ما أستطيع تزويدك به”. وكانت عائلته الصغرى تتألف من مجموعة من الشبان والشابات، جميعهم أصغر منه، وهم يحتاجون نفقاتٍ ينوء بها كاهل والده الدركي.
هبط بيروت وحيدًا إلا من ذلك المبلغ المالي البسيط، وسكن لدى أقارب له في إحدى ضواحي العاصمة، وراح يبحث عن عمل في حقل الصحافة، فعثر في 1956 على وظيفة مصحّح في صحيفة الشرق، الظهرية. وفي تلك السنة، وقع العدوان الثلاثي على مصر، فكأنه كان مرصودًا منذ بداياته الصحافية للقضايا العربية الكبرى، مثل الوحدة العربية وفلسطين والجزائر وقضايا العدل الاجتماعي؛ ولا غروَ في ذلك، فهو من بيئة عانت التهميش والفقر والظلم وعدم الرعاية الحكومية، وكان أبناء منطقته يقاسون عدم اهتمام السلطات الرسمية بهم وبأحوالهم، الأمر الذي زوّده منذ يفاعته، بحساسية واضحة ضد الظلم الاجتماعي، وبوعي حاسم في ضرورة النضال لإزالة هذا الظلم. في سنة 1960، وكان قد أصبح صحافيًا معروفًا، عرض عليه رياض طه (نقيب الصحافة اللبنانية في ما بعد) أن ينضم إلى مجلة الأحد مديرًا لتحريرها، وهو ما حدث. ولم تكن “الأحد” أرقى من “الحوادث” أو أفضل منها، لكنها صارت مجلة مهمة على يدي طلال سلمان. وفي “الأحد” تعرّف إلى رفيق خوري الشاعر السوري اليساري الذي بدأ يحرر زاوية بعنوان “خبز المطابع” عن الكتب المهمة الصادرة حديثًا، والذي صار رئيسًا لتحرير صحيفة الأنوار، وأحد أبرز كُتّاب الأعمدة في لبنان، وانعقدت بينهما صداقة قوية وزمالة مستديمة. وقد أطلق طلال سلمان مع رفيق خوري في سنة 1961 مسابقة في القصة القصيرة بالتعاون مع رئيس تحرير مجلة الآداب، سهيل إدريس. وتقاطرت عليهما القصص من العالم العربي كله. واختير الفائزون بحسب المعايير النقدية السائدة، فكان جميع الفائزين من سورية، ونالت غادة السمان الجائزة الأولى، ونال زكريا تامر الثانية. ولم يطل الزمان كثيرًا حتى صارت غادة أشهر أديبة عربية، واحتل زكريا تامر مكانة مرموقة جدًا بين كتّاب القصة القصيرة العرب. ومع هذه الانطلاقة المتسارعة في العمل الصحافي والشهرة الصحافية، أبت المؤسسة الأمنية اللبنانية إلا أن تنغّص عليه أيامه، وألا تترك له من حلاوة المهنة إلا القليل، فاعتقله جهاز الأمن العام في أغسطس/ آب 1961 بتهمة إقامة صلة مع أحمد الصغير جابر، وهو ممثل جبهة التحرير الجزائرية في لبنان، وتهريب السلاح إلى الثوار الجزائريين، وإعداد انقلابات عسكرية في بعض الدول العربية. كانت نصرة الثورة الجزائرية شرفًا كبيرًا، وليست تهمة ليخجل منها صاحبها، لكن اتهامه بتدبير انقلابات عسكرية كان عملاً كيديًا واضحًا. ومع ذلك، خرج طلال سلمان من السجن بالبراءة بعد نحو 20 يومًا من التحقيقات المتواصلة والاحتجاز. غير أن ما آلمه في الصميم اكتشافه أنه فقد عمله في مجلة الأحد، وخاب أمله ببعض زملائه الصحافيين، خصوصًا رياض طه الذي لم يسانده في أثناء اعتقاله كما يجب أن يسانده. وفي تلك الأجواء المحبطة في 1962، جاء إلى لبنان مؤسّس دار الرأي العام الكويتية التي تُصدر صحيفة الرأي العام، عبد العزيز المساعيد، وعرض عليه السفر إلى الكويت لإصدار مجلة دنيا العروبة. قبل العرض بشرط واحد أن يسافر أولًا إلى الجزائر ليشهد احتفالات الاستقلال الوشيكة، ويحضر افتتاح الجمعية الوطنية التأسيسية في سبتمبر/ أيلول 1962. وفي الجزائر، التقى الرئيس الأول للجزائر المستقلة أحمد بن بلة، ورفاقه محمد خيضر ومحمد بو ضياف وحسين آيت أحمد ورابح بيطاط وجميلة بوحريد. ثم ارتحل في الشهر نفسه إلى الكويت مصطحبًا معه مجموعة من الصحافيين والفنيين اللبنانيين. وفي 25/2/1963 صدر العدد الأول من مجلة دنيا العروبة. لكن نداء بيروت كان يحثّه على الإسراع في العودة إلى المدينة التي باتت عاصمة الصحافة العربية، والتي كانت تفور بمعالم الازدهار العمراني والثقافي، فعاد في السنة نفسها.
بين سنتي 1956 و1973 امتدّت حقبة الحلم والتعب والأمل. وفي أواخرها، بدأ طلال سلمان يُعد العدة لإصدار “السفير” صحيفة يومية، مع أن تجربته الصحافية ازدهرت في المجلات الأسبوعية. وكانت هذه الخطوة تحدّيًا متعدد الوجوه. وبعد جهد مكثف ومشاورات كثيرة، وبدعم من معمّر القذافي، الناصري في ذلك الوقت، صدر العدد الأول من “السفير” في 26/3/1974 وكان يتضمن مقابلة مع ياسر عرفات، ويحمل شعار “جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان”، فضلًا عن شعار رديف “صوت الذين لا صوت لهم”. لكن، مع صدور العدد الثاني في 27/3/1974 رفعت جمعية المصارف في لبنان دعوى قضائية ضد الصحيفة، ثم وصل عدد الدعاوى إلى 16 قضية خلال العام الأول وحده، الأمر الذي برهن مقدار انخراط “السفير” في الدفاع عن المظلومين والمقهورين والمهمّشين، وفي مواجهة النظام السياسي وأصحاب المصالح الرأسماليين.
فرضت الحرب اللبنانية التي نشبت في 13 نيسان/ إبريل 1975 على “السفير” أن تولد، منذ اللحظة الأولى، “مقاتلة”. وحمل بعض صحافييها السلاح في النهار والقلم في الليل. وفي معمعان المعارك المتنقلة في لبنان آنذاك، والمتركّزة في بيروت وقلبها التجاري، امتاز الموقف السياسي للسفير بأمرين: رفض الحرب الأهلية كليًا، والوقوف بعيدًا عن القوى السياسية اليمينية التي مارست سياسات غبية أدّت، في ما أدّت اليه، إلى اندلاع الحرب. غير أن رفض الحرب لم يمنع “السفير” من التعاطف مع برنامج الحركة الوطنية اللبنانية والوقوف إلى جانب المقاومة الفلسطينية. واشتُهرت “السفير” وكتّابها بالموقف الرافض زيارة الرئيس المصري أنور السادات للقدس في 19/11/1977، وعنونت صفحتها الأولى في اليوم الأول للزيارة: “الساقط عند المغتصب”. وبهذه المواقف التي كان طلال سلمان يصوغها ببراعة، صارت كلمة “الجريدة” في سورية ولبنان والمخيمات الفلسطينية تعني “السفير” حُكمًا، فالرجل في دمشق يقول لابنه: اذهب واشترِ لنا الجريدة. والجريدة هنا تعني “السفير” ولا شيء غيرها. والفلسطيني في لبنان يسأل ابنه الشاب: هل جلبت الجريدة معك؟ والمقصود إليه هنا هو “السفير”. والجميع يبدأ قراءة “السفير” من الصفحة الأخيرة، حيث يطلّ كاريكاتير ناجي العلي يوميًا على الناس.
انتهى تألّق الصحافة اللبنانية، وانحسر دورها الريادي بانتهاء تجربة صحيفة السفير، اليسارية العروبية، في عام 2017، وبانتهاء تجربة صحيفة النهار، الليبرالية اليمينية مع وفاة غسان تويني في 2012. ويكفي طلال سلمان في هذا الميدان أن تاريخ الصحافة في لبنان، وتاريخ لبنان الثقافي والسياسي، مدينان له ولصحيفة السفير بصفحات بهية ووضّاءة ومجيدة، وبمواقف جريئة تحصى ولا تُعد. تلك هي “السفير”، وهذا هو طلال سلمان الذي ما فتئ يضجّ بالطيبة والتواضع والكرم، ويتحرّق ألمًا وحسرة على ما آلت إليه أوضاع العرب، وهو الذي أفنى عمره الأبيض بين الأوراق السُّمر والأحبار السود والأقلام الزرق في سبيل نهضة العرب. نشر هذا التقرير في موقع العربي الجديد في 5 نيسان ابريل 2023، نعيد نشره بعد غياب الاستاذ طلال سلمان أمس الجمعة في 25 آب اغسطس 2023. المصدر :موقع "مصدر دبلوماسي" |