طَوَى مُؤسِّس وناشر جريدة "السفير" طلال إبراهيم سلمان الصفحة الأخيرة من مسيرة حياته الدنيوية، مُنتقِلاً إلى الحياة الأبدية، حيث تُعرض مسيرة حياته عن 85 عاماً، خطّها مُنذ ولادته في العام 1938 وحتى رحيله في العام 2023.
حَفَرَ الأستاذ طلال سلمان مسيرة حياته بالدم القاني، بعد تعرّضه لمُحاولة اغتيال، نجا منها، وبالحبر الأسود على صفحاتِ الصُحُف والمجلات التي عمل فيها، إلى أنْ استقرَّ مُؤسِّساً وناشراً لجريدة "السفير"، مُنذ ولادتها في 26 آذار/مارس 1974، وحتى قرار التوقُّف عن إصدارها تاريخ 31 كانون الأول/ديسمبر 2016.
استطاع طَوَال مسيرته أنْ يرسم خطّاً واضحاً له، فيه ثوابت تلتصق بالقضايا الوطنية والقومية، وفي الطليعة قضية فلسطين، وهو الذي وَعَى باكراً لنكبة أبنائها في العام 1948، فيما كان لا يزال طفلاً لم يبلغ العاشرة من عمره.
وازدادت معرفته بفضية فلسطين، خلال تنقلّه مع والده الدركي في المناطق اللبنانية، وتعرّفه إلى أترابه من أبناء فلسطين، وحركات المد القومي العربي مُنذ بداياته ومع قادته، ومن ثم قادة الثورة الفلسطينية.
في أي المواقع التي شغلها وتبوّأها "أبو أحمد"، كانت قضيّة فلسطين صنواناً له، فسُمِّيَ "عاشق فلسطين"، يُدافع عنها وينقل عدالتها عبر صفحات الصحف، ومقالاته، أو يفتح أبواب "السفير" لنشر مقالات مُثقّفين ومُناضلين من أجلها، وفي طليعتهم محمود درويش وناجي العلي مع كاريكاتور "حنظلة".
لا يُمكن حصر مواقف الأستاذ طلال سلمان، التي تجاوزت دوره كإعلامي ناقلٍ للخبر، إلى صانعه ومُؤثّر في السياسات، ليس لبنانية فقط، بل العربية والإقليمية والدولية.
كم هو مُؤثرٌ أنْ تلتقي بإعلامي كبير، فكيف بأنْ تعمل تحت مظلّته، أو أنْ تُشاركه نشاطاً ما، وصولاً إلى إلقاء كلمة في مُناسبة تتعلّق بفلسطين، في لحظة مفصلية، وزيارة وفاءٍ من أهل الوفاء إلى مَنْ ناصر قضيّتهم وقضية أبناء شعبهم.
البداية كانت بمُتابعتي الدائمة لقراءة مقالات الأستاذ طلال عبر جريدة "السفير"، قبل أنْ تُتاح لي فرصة الانضمام إلى قسم الرياضة في الجريدة عام 1985، بتشجيعٍ ودعمٍ من رئيس القسم الرياضي فيها يوسف برجاوي "أبو فراس"، الذي تشاء الظروف أنْ يسبق رحيله "أبو أحمد" بـ20 يوماً.
كان اللقاء الأوّل والمُباشر مع الأستاذ طلال، الذي يشحذ الهمم، ويُعطي التوجيهات، وذلك قبل الانتقال إلى جريدة "اللـواء"، والاستقرار فيها مُنذ أواسط العام 1986.
ثُمَّ المُشاركة في لقاءات مُتعدّدة، والزيارة التي قٌمتُ بها إلى مكتبه في جريدة "السفير" مع عائلة الشهيد زياد أبو عين، بعد إصدار كتابي "فرسان فلسطين"، وحفل توقيعه في بلدية صيدا بتاريخ 7 كانون الثاني/يناير 2016، لشكره على مواقفه الداعمة لقضية فلسطين.
لعلَّ من أجمل اللحظات - رغم قساوة المُناسبة - كان جلوسي إلى جانب الأستاذ الكبير طلال سلمان، خلال احتفال "إعلاميون في مُواجهة صفقة القرن"، الذي جرى في فندق "رمادا" - بيروت، يوم الجمعة في 21 حزيران/يونيو 2019، ضُد الصفقة التي أعلن عنها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وألقى خلالها كلمة، وتحدّثتُ باسم فلسطين.
كان الألم يعتصر قلبه، وهو يئن من كثرة الكلام من قِبل مسؤولين كُثُرٍ، وقِلَّةُ العمل من أجل أقدس القضايا.
يوم قرّر الأستاذ طلال إصدار العدد الأخير من صحيفة "السفير"، وهو في عز العطاء، وأوج التألّق، كان ذلك نتيجة الألم والمُعاناة، لعدم التمكُّن من تأمين إصدار صحيفة مُستقلة، بعدما كدَّ من عرق الجبين، وغذَّى بالدم والجسد للمُحافظة على إصدارها الدائم.
يرحل الأستاذ طلال سلمان تاركاً بصمةً مُميّزةً، في مسيرة الصحافة الوطنية اللبنانية والعربية، لا يُمكن إلا أنْ تشهد لكبارها أمثاله، من عميد "اللـواء" الراحل عبد الغني سلام، إلى عميد "النهار" غسّان تويني، نقيبي الصحافة رياض طه ومحمد بعلبكي ونقيب المُحرّرين ملحم كرم، والحمل على كاهل النُذُر القليل الباقي من روّاد الكلمة.
رحم الله الراحل "أبو أحمد"، وأسكنه فسيح جنانه، وألهم أهله ومُحبيه الصبر والسلوان.
الأستاذ طلال سلمان والإعلامي هيثم زعيتر يتوسطان المشاركين في احتفال "إعلاميون في مواجهة صفقة القرن"، الذي عقد في 21-06-2019