في لبنان تتفوق التسوية على النص منذ الاستقلال لأن ميثاق 1943 لم يكن إلّا تسوية ببعدين خارجي وداخلي، البعد الخارجي الملخّص بعبارة "لا شرق ولا غرب" والبعد الداخلي المتمثل بتوزيع المناصب، هذا إذا وضعنا جانبًا البعد الشخصي الذي كان أساسيًّا في العلاقة بين طرفَي ذلك الميثاق بشارة الخوري ورياض الصلح، ولِمن يرغب بالاطلاع ما عليه إلّا أن يقرأ رواية "يُمنى" لسمير عطالله (دار النهار) التي توثّق تلك المرحلة وأحداثها بأسلوب شيّق وأنيق ومفيد وتروي قصة الحب الذي جمع رياض الصلح بيمنى شقيقة بشارة الخوري.
حتى في التاريخ الأبعد من الاستقلال ومن قيام لبنان الكبير وتحديدًا في تاريخ الصراع على إدارة جبل لبنان في القرن التاسع عشر كانت الفتن الطائفية تنتهي إلى تسوية ذات بعدين محلي وخارجي، أو بالأحرى تسوية خارجية بين القوى الكبرى المتصارعة على النفوذ والمصالح، الباب العالي والقوى الأوروبية الطامعة بنفوذ ومصالح في الشرق، تتم ترجمتها بترتيبات محلية حول طريقة الإدارة والحصص فيها، هكذا كان نظام القائمقاميتين وكانت متصرفية جبل لبنان.
اليوم لم يتغير شيء وما يزال هذا المنطق يحكم إدارة لبنان على يد القوى الداخلية المتصارعة أبدًا على حكمه والتي تنتظر التسوية الخارجية، وهذا ما يجعل الاتفاق على تكوين السلطات #الدستورية عبر انتخاب الرئيس وتكليف رئيس حكومة وتشكيل الحكومة أمرًا متعذرًّا إلا عبر تسوية خارجية بين القوى المعنية بلبنان وتحديدًا تلك الممسكة بالأوراق الداخلية. وهذه التسوية حين تحصل يكون لها بعد داخلي يتعلق بشخص الرئيس والحكومة وأحجام النفوذ والدور.
مشكلة المبادرة الفرنسية هي أنها لم تتمكن من تحقيق تسوية خارجية لتستند إليها في تسويق الحل الداخلي، رغم أنها كانت قائمة على منطق التسوية الداخلية عبر مقايضة الرئاسة برئاسة الحكومة وغيرها من المواقع. ولو كانت تلك المبادرة مستندة إلى تسوية خارجية لكان رئيس لبنان اليوم هو سليمان فرنجية ولكان انتخابه حصل بشبه إجماع يشمل عددًا من القوى المعارضة له بشراسة. ومشكلة المبادرة القطرية، أنها تدور في وقت لم تصل الأمور خارجيًّا إلى تسوية بين القوى الممسكة بالأوراق الداخلية، وقطر ليست منها، بل هي قادرة فقط على تأمين التواصل ونقل وجهات النظر واستشراف آفاق الحلول حتى إذا ما اكتملت عناصر التسوية الخارجية تمكنت قطر من إقامة الترتيبات وتأمين مستلزمات الرعاية. هذا ما حصل في اتفاق الدوحة العام 2008 وهذا ما لم يحصل اليوم مع أن الوسيط هو نفسه وقدراته هي نفسها لا بل قد تكون أكبر من السابق. ففي العام 2008 تمّ تجاوز الحاجة إلى تعديل الدستور لانتخاب العماد ميشال سليمان رئيسًا بالاستناد إلى مفاعيل التسوية، أما اليوم فإن سلاح الحاجة إلى تعديل الدستور يتم استخدامه من قبل المعارضين لانتخاب العماد جوزاف عون لأن التسوية لم تحصل.
لهذا السبب وإن كان عندنا دستور يحدّد طريقة انتخاب الرئيس ويحدّد المهل الدستورية التي كان يجب أن يحصل الانتخاب خلالها، وقد مضى عام كامل عليها، تتعطّل النصوص الملزمة وتتجمّد الآليات التي تنص عليها بانتظار التسوية الخارجية.
هذه التسوية سوف تحصل ولكن أولويات أصحابها تختلف عن أولويات الشعب اللبناني الذي يبقى رهينة أبديّة بسبب القبض على قراره ومصيره من قبل القوى الداخلية التي تقاسمت المقاعد النيابية في الانتخابات الماضية وهي مرتهنة بكليتها للخارج. وهذا الواقع سوف يستمر ما لم تنشأ قوى سياسية غير قائمة على الانتماء الطائفي الذي يعني الانقسام الحتميّ ويستدرج النفوذ الخارجي.