حق الدفاع المشروع لا يعني الحق بالانتقام من دون تمييز... هذا بعض ما قاله وزير الخارجية الفرنسية الأسبق دومينيك دو فيلبان أمس في حديثٍ حول التطورات في فلسطين. لا بد من التنويه أنّ اقتباس هذا القول هو بغرض مقارنته مع الموقف الرسمي للدولة الفرنسية إزاء هذه الأزمة ولتبيان الانحراف الكبير الذي ظهرت به عن تقاليدها الدبلوماسية المتمايزة والتي كانت تعتمد منطلقات مستمدة من الشرعية الدولية وأسس الحق والعدل، ولإظهار مدى الانحياز غير المسبوق لصالح دولة الاحتلال، واقتباس موقف السيد دو فيلبان الذي أشار إلى مفهوم حق الدفاع المشروع لا يعني البتّة بأن لـ"إسرائيل" هذا الحق وهي ليست ولن تكون في حالة الدفاع المشروع لأنها أصلًا حالة اعتداءٍ مستمرة بمجرد وجودها ومنذ قيامها على أرض فلسطين وأنقاضها في العام 1948.
المسألة تتعلق بالإشارة إلى خطورة غياب هذا النوع من المقاربات العاقلة بالحدّ الأدنى الذي أصبح مفقوداً كلياً في السياسة الخارجية لفرنسا بعد أن أصبحت مواقفها متماهية بشكل كامل مع الموقف الأميركي وتحت سقفه حتى وإن تعارض ذلك مع المصالح العليا للدولة الفرنسية. هذا ما برز بشكل واضح عند اندلاع الأزمة الأوكرانية وهذا ما يظهر بصورة فاقعة بشأن الأزمة المستجدة حول غزّة.
حتى في أيام القطب الدولي الواحد التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي، والتي مارست فيها الولايات المتحدة الأميركية دور شرطي العالم، أو حاولت ذلك، كان لفرنسا صوت يمتاز عن الرغبات الأميركية، وكانت مواقفها من القضايا العربية غالباً ما تحمل طابعاً حقوقياً متوازنًا بالمقارنة مع المواقف الأميركية، تلك الحقبة ربما انتهت بعد احتلال العراق الذي أقدمت عليه الولايات المتحدة وبعض حلفائها دون وجود قرار من مجلس الأمن يجيز للدول الأعضاء استخدام القوة تجاه دولة عضوٍ في الأمم المتحدة تحت عنوان "حفظ السلم والأمن الدولي"، في تلك الحقبة كان موقف فرنسا الرافض لخيار الحرب مدوّيًا رغم عدم تمكنها من كبح جماح الداعين إلى الحرب وكانت الكلمة التي ألقاها وزير الخارجية الفرنسية آنذاك دو فيلبان نفسه من النوع التاريخي وأصبحت تدرّس في معاهد العلاقات الدولية.
التأييد الغربي الأعمى لدولة الاحتلال بعد الهزيمة التي لحقت بها، تحوّل إلى ترخيص بالقتل غير المحدود ويتبين من حجم التعاطف الذي حظيت به من جانب "العالم الحرّ" بأن مصير أهل غزة الموت المحتّم أو الترحيل الجماعي من غزّة إلى سيناء في أحسن الأحوال. خيار الترحيل أو "التراسفير" بعد المذبحة وخلالها نهجٌ إسرائيلي متبع منذ 1948 وهذا ما تخطّط له "إسرائيل" أصلًا وما تؤمن به نخبها الحاكمة اليوم كنوع من الحلّ النهائي للقضية الفلسطينية، غزّة تُرحّل إلى سيناء والضفة الغربية إلى الأردن.
لا بد أن "إسرائيل" اليوم تعتبر أن هذا "الحلّ" قابل للتحقيق وبأنها قد تتمكن من إنجازه في غزّة مستفيدة من اللحظة ومن الزخم الذي تأمّن لها من التعاطف بنتيجة الخسائر البشرية الكبيرة التي تكبّدتها على أيدي مقاتلي "حماس"، يبدو أن هذا الأمر أصبح موضع بحث جدّي وقد صرّح مسؤولون أميركيون بأن التفاوض يجري مع مصر لفتح معبر رفح الحدودي أمام اللاجئين الفلسطينيين الجدد الذين قد يتدفّقون من جراء قصف المباني السكنية وعند الاجتياح البرّي.
هذا السيناريو قد يجعل اشتعال الجبهة في الجنوب مسألة وقت، لا سيما عندما تبلغ معركة غزّة حدًّا لا يمكن السكوت عنه من "المحور" وعندما تحتاج "إسرائيل" إلى معركة منضبطة شمالًا لتشتّت الانتباه عن ارتكاباتها في غزّة.