ضربة تلو الأخرى تتلقاها تركيا منذ أشهر، من محاولة الانقلاب الى الاعتداءات الارهابية والعمليات العسكرية ضد الاكراد، مرورا بالاعتداء على مطار أتاتورك في اسطنبول والاعتداء الارهابي على ملهى "رينا" ليلة رأس السنة، والعقوبات التي فرضتها عليها روسيا، بالاضافة الى الخلاقات السياسية الداخلية وغيرها. كل هذه العوامل دفعت بالعديد من القطاعات الاقتصادية التركية الى حافة الانهيار، وعلى رأسها القطاع السياحي، كما أوصلت الليرة التركية الى مستويات متدنية غير مسبوقة أمام الدولار، مع التراجع المستمر لاحتياطات البلاد من العملات الاجنبية.
أكثر من 15 اعتداء إرهابيا سجلت في تركيا خلال 2016، كان آخرها المجزرة التي وقعت في ملهى "رينا" في اسطنبول ليلة رأس السنة، حاصدة 39 شهيداً وعشرات الجرحى، أكثر من نصفهم من السياح العرب والاجانب، رغم التحذيرات المستمرة التي أطلقتها العديد من الدول لرعاياها من التوجه الى تركيا نتيجة المخاوف من حصول اعتداءات فيها. وبحسب وزارة السياحة التركية، يساهم القطاع السياحي بنحو 4.5% من الناتج المحلي للبلاد، ولكن نتيجة الاعتداءات والتطورات الامنية التي حصلت تراجعت هذه السنة بشكل كبير تخطت الـ 30% بحسب بعض التقارير، فيما تحدثت هذه التقارير عن تراجع متوقع لهذا القطاع في الشهر الاول من العام 2017 بأكثر من 25%. وفي السنوات الماضية وحتى مطلع 2015، بما شجع نسب النمو العالية التي شهدها القطاع الاستثمارات فيه، حيث وصل حجم هذه الاستثمارات إلى 80 مليار دولار. وفي المقابل ها هو مجلس السياحة والسفر العالمي يقدر خسائر القطاع بنحو 8.5 مليارات دولار بعد العملية الإرهابية ليلة رأس السنة في ملهى "رينا". وأمام هذه الخسائر الضخمة، كشف المجلس العالمي أن الاعتجداءات الارهابية ومحاولة الانقلاب وكل التطورات التي شهدتها تركيا في الاشهر الماضية، أدت الى خسارة ما يقارب 600 الف فرص عمل، اي نحو مليوني وظيفة وفرصة عمل يؤمنها القطاع، وتمثل أكثر من 8% من العديد الاجمالي لفرص العمل في تركيا، المقدرة بنحو 25 مليون فرصة. وفي سياق متصل، قدرت العديد من الدراسات الخسائر التي تحملتها تركيا نتيجة الاعتداءات الارهابية التي تعرضت لها بأكثر من 11 مليار دولار.
وأمام هذا الواقع، يبدو أن تركيا قد ودّعت، أقله للسنوات القليلة المقبلة، حالة الازدهار التي شهدها قطاعها السياحي عام 2014 عندما زارها ما يقارب 40 مليون سائح من دول العالم، وصنفت حينها سادسة أشهر وجهة سياحية في العالم، ليتراجع هذا الرقم الى نحو 31 مليون سائح عام 2015 وصولا الى نحو 20 مليون سائح فقط عام 2016. ويشار الى ان تقريرا صادرا عن شركة "آي بي أم" للأبحاث توقع قبل الأحداث الأخيرة نمواً متواضعاً للقطاع السياحي التركي بين عامي 2016 و2020 عند 1.1 في المئة، فيما توقع نمواً طفيفاً أيضاً في حجم القطاع بحلول 2020، ليبلغ حجم هذا القطاع نحو 39.6 مليار دولار.
ولا يبدو الوضع الاقتصادي العام للبلاد أفضل حالا، فحقبة النمو الاقتصادي التي نتجت من سياسات حزب العدالة والتنمية المتبعة منذ عام 2004 وأوصلت النمو الى 9% قد ولّت، نتيحة تدهور الوضع الامني والسياسي والتطورات التي شهدتها البلاد منذ منتصف 2015، ليتراجع نمو الاقتصاد التركي الى ما دون 4%. وبالاضافة الى الضغوط السياسية والامنية، تشهد تركيا أيضا خلافا داخليا كبيرا حيال السياسة النقدية التي يجب أن يتبعها المركزي، في الوقت الذي ارتفعت فيه الاصوات المطالبة برفع اسعار الفائدة، خيارا وحيدا لوقف نزف سعر صرف العملة، الامر الذي تعارضه الحكومة بشدة لاعتقادها ان هذه الخطوة من شأنها ان تضر بالنمو الاقتصادي.
إذا، يمر الاقتصاد التركي بحالة تراجع هي الأسوأ منذ عام 2009، ويعد التراجع الذي تشهده الليرة التركية ثاني أسوأ أداء لهذه العملة عام 2016، بعدما فقدت 17.5 في المئة من قيمتها أمام الدولار. وفي الساعات الماضية، سجلت الليرة التركية تراجعا جديدا في أسواق القطع رغم إجراءات اتخذها البنك المركزي. ومنذ مطلع العام خسرت العملة التركية نحو 10% من قيمتها مقابل الدولار، فيما يبحث البرلمان في مشروع إصلاح دستوري يهدف الى تعزيز سلطات الرئيس رجب طيب اردوغان. ويوم الابعاء، خسرت الليرة 1,15% من قيمتها امام الدولار، لتبلغ 3,84 ليرة لكل دولار. ويخشى الاقتصاديون استمرار هذا التوجه نتيجة الغموض على المستوى الامني والاستقرار السياسي مع اقتراب احتمال الانتقال الى نظام رئاسي. ومطلع الاسبوع، سعى البنك المركزي للجم هبوط العملة، فخفض نسبة احتياط الصرف في المؤسسات المصرفية لضخ 1,5 مليار دولار في النظام المالي، لكن الاجراء لم يحرز النجاح المتوقع لاعتبار المحللين انه لا يكفي. رغم ذلك ما زالت السلطات التركية متفائلة. فقد صرح وزير الاقتصاد نهاد زيبقجي ان سعر الصرف ليس اهم من العجز في الحساب الجاري والتوظيف والنمو او التضخم، معتبرا ان تراجع الليرة سيكون موقتا، فيما لم يستبعد بعض الاقتصاديين المقربين من الرئيس اردوغان وجود مؤامرة اجنبية لتشجيع المضاربات وخفض قيمة الليرة اثناء النقاشات البرلمانية بشأن الاصلاح الدستوري.
وتبدو الازمة التر يمر بها اقتصاد تركيا ووضعها المالي جلية عند دراسة الحجم الفعلي للاحتياطات التركية من العملة الصعبة. فأرقام البنك المركزي تظهر ان إجمالي هذه الاحتياطات بلغ نهاية 2016 ما يقارب نحو 106 مليارات دولار، منها 14 ملياراً من الذهب. ولكن تقدر حسابات أجراها بنك يو.بي.إس وبنوك أخرى في لندن واسطنبول بناء على بيانات المركزي أن المستوى الحقيقي للاحتياطات القابلة للاستخدام أقرب إلى 35 مليار دولار، بعد الاخذ في الاعتبار حجم المبلغ الذي يتعين على تركيا سداده من ديونها الخارجية في الأشهر القليلة المقبلة. وتبين حسابات "بنك أوف أميركا ميريل لينش" أن تركيا يمكنها أن تمول واردات تكفي خمسة أشهر، على افتراض أن مستوى الاحتياطات يقارب 100 مليار دولار. وقدر المصرف أن إجمالي الدين الخارجي التركي يبلغ 421 مليار دولار منها 107.3 مليار دولار تستحق العام المقبل. ويتساوى هذا المبلغ تقريبا مع الرقم العام للاحتياطات، لكنه يزيد ثلاث مرات على مستوى الاحتياطات القابلة للاستخدام، وبهذا المعيار تصبح ملاءة الاحتياطات لدى تركيا أقل منها في دول مثل مصر وأوكرانيا.
في اختصار، هي فترة عصيبة تمر بها تركيا، إقتصاديا وأمنيا وسياسيا وماليا، فهل تقول وداعا لسنوات الازدهار، وأهلا بسنوات الانهيار؟!