الجمعة 10 تشرين الثاني 2023 18:08 م |
مطار مرج الخيام “الإنكليزي” شاهد على حروب لم تنتهِ |
* جنوبيات يشهد أهالي الخيام وكفركلا ومرجعيون والعديد من قرى الجوار، على الاعتداءات الإسرائيليّة المتكرّرة يوميًّا، منذ انطلاق عمليّة “طوفان الأقصى” وحرب إسرائيل على غزّة، وما رافقهما من مناوشات على الحدود اللبنانيّة مع فلسطين المحتلّة، بين المقاومة ومواقع الاحتلال. عهد طويل في معاناة أبناء المنطقة مع الاحتلال الإسرائيليّ، لم يبدأ منذ شهر ونيّف، بل لم يتوقّف نهائيًّا منذ تاريخ هذا الاحتلال لفلسطين، في سنة 1948، وما تعرّضت له البلدات المحيطة بسهليّ الخيام ومرجعيون من اعتداءات واجتياحات وعلى فترات متلاحقة، لم تقتصر على المنطقة فحسب، بل امتدّت على طول الحدود اللبنانيّة الأقرب إلى فلسطين، باتّجاه جبل الشيخ شرقاً، أو نحو البحر، عند نقطة الناقورة غربًا، ناهيك عن الاعتداءات والاحتلالات التي لم تسلم منها منطقة جنوبيّة، وصولاً إلى البقاع وبيروت. في الأمس القريب تساقطت القذائف الإسرائيليّة في سهل الخيام المحاذي لمستعمرة “المطلّة” ويحدّ البلدة الحامل اسمها على طول ناحيتها الغربيّة. هذا السهل شهد في العام 2006، كيف دمّرت الطائرات الإسرائيليّة معظم أحياء وبيوت بلدة الخيام وسوّتها بالأرض، تماماً مثلما فعلت قواتها في عدوان العام 1978 عندما احتلت الخيام، إذ دمّرت بيوتها عن بكرة أبيها، وارتكبت فيها مجزرة بحق عشرات المسنين ممّن صمدوا فيها ولم يغادروها.
ما تبقى من مرائب مبيت الطائرات في المطار الذي بناه الجيش الإنكليزي في سهل الخيام أوائل أربعينيات القرن الماضي (الصورة لكامل جابر) ثمّة معارك أخرى شهدتها الخيام وسهلها وتخومهما، سبقت احتلال فلسطين بنحو ست سنوات، وذلك بين عامي 1941 و1942 في إبّان الحرب العالميّة الثانية، والمعارك التي جرت بين الجيش الإنكليزي والحلفاء من جهة، وبين قوّات فيشي التي كانت تتقدّم من ناحية فلسطين من جهة أخرى. في حينه، كانت الخيام وسهلها نقطة العبور الرئيسيّة نحو فلسطين المحتلة، مروراً بسهل “الحُولة” الذي كان العشرات من اللبنانيّين الجنوبيّين يمتلكون أراضٍ وعقارات فيه. قام الجيش الإنكليزي بإنشاء العديد من التحصينات في الخيام وحولها، فأنشأ في السهل مطاراً عسكريًّا مع مدارجه وأبنيته؛ وعوائق من مكعّبات اسمنتيّة وصخرية ضخمة يطلق عليها تسمية “ترانش” أو ترانشيّات” وخصوصاً في محلّة “باب التنيّة”، وهو معبر ضيّق بين الخيام والسهل، يقع بين جبلين؛ وبنى الجيش الإنكليزي أيضاً مستشفىً ضخمًا تحت الأرض، عند التخوم الشماليّة الشرقيّة للسهل تحت بلدة الخيام وقريب من نبع “الدردارة”؛ ناهيك عن حفر الخنادق الضخمة لمهمّة التصدّي وإعاقة تقدّم الآليات.
مطار المرج الإنكليزيّيطلق أبناء الخيام على سهلهم تسمية المرج (المَرْجُ: أَرضٌ واسعةٌ ذاتُ نبات ومَرْعًى للدَّوابِّ)، وكان من الطبيعيّ أن يحمل المطار التسميّة الأقرب إلى نفوس الأهالي، فأطلقوا عليه اسم “مطار المرج”. يتوسّط “مطار المرج الإنكليزيّ” مدينة الخيام وتلّ الحمامص على طول ناحيته الشرقيّة، والقليعة وبرج الملوك على امتداد ناحيته الغربيّة، وصولاً إلى تلّ النحاس والأطراف الشماليّة الشرقية لبلدة كفركلا. أمّا “المُطلّة” الواقعة شماليّ فلسطين المحتلّة فتحدّه من ناحيته الجنوبيّة. ومرجعيون ودبّين من الجهة الشماليّة. استغرق العمل في المطار المنتشر على مساحة عشرة كيلومترات مربّعة، أكثر من ثلاث سنوات متتالية. فاق عدد العاملين في غرفه وتحصيناته، وفي مرائب الطائرات، ومدرجيه الشماليّ والجنوبيّ الشرقيّ المائتين، كانوا من أبناء الجوار ومناطق جنوبيّة بعيدة، من مرجعيون وحاصبيّا والنبطية وبنت جبيل. اشتغلوا فيه بـ”اليوميّة”، وكان أجر العامل منهم يتراوح بين ليرة واحدة وليرة ونصف الليرة.
استغرق العمل في المطار المنتشر على مساحة عشرة كيلومترات مربّعة، أكثر من ثلاث سنوات متتالية. فاق عدد العاملين فيه المائتين، وكان أجر العامل منهم يتراوح بين ليرة واحدة وليرة ونصف الليرة. شُيّدت فيه تسعة مرائب لمبيت الطائرات وحمايتها من القصف والغارات، يقوم كلّ واحد منها، على ثلاثة جدران ترتفع نحو ثلاثة أمتار؛ وتركت الجهة الرابعة مفتوحة لدخول الطائرة وخروجها؛ بلغت مساحة كلّ مرآب نحو 500 متر مكعّب. يُضاف إليها مبنى للقيادة وعدد من أبراج المراقبة، التي كانت ترشد الطائرات من علّ، لم يبق منها اليوم إلّا الأجزاء السفليّة، فيما بدأت المرائب تنهار أخيراً، الواحد تلو الآخر، بفعل الإهمال وما تعرّض له السهل من اعتداءات واجتياحات.
مطار يصطاد طائراته ويعزو البعض ممّن عاصروا تلك الحقبة، أسباب فشله إلى انسيابه في منخفض سهليّ بين سلسلة تلال مرتفعة تحوطه من جهاته الأربع، هي: تلّ الحمامص جنوبيّ الخيام والخيام البلدة الواقعة على تلّ مرتفع من الشرق؛ وتلّ النحاس جنوبيّ برج الملوك من الغرب؛ وتلّ دبّين شرقيّ مرجعيون من الشمال، فضلاً عن تلّ “رياق” وسط مستعمرة المطلّة من الجنوب.
شهود من زمن المعارك تذكّر طانيوس حنّا جرجوعي المولود في القليعة سنة 1920، أيّام المطار، “كأنّها مرت البارحة”. وقال: “كنت أعمل مزارعاً في السهل عندما بدأ العمل في المطار والمدرّجات، في أعقاب هبوط اضطراريّ لطائرة ركّاب. جرت الورش فيه بالتنسيق مع الدولة اللبنانيّة وأصحاب الأرض؛ واشتغل فيه أبناء القليعة والخيام وكفركلا ودير ميماس وغيرها”. وأضاف: “حاولتْ إحدى الطائرات الهبوط فيه، أكثر من مرّة، ولم تفلح. وأخرى تعطّلت بعد نزولها، ولمّا حاولت الإقلاع، سقطت ثانية على “بوزها”، ثم أعيد تصليحها لتقلع ثانية”.
يتذكّر طانيوس حنّا جرجوعي المولود في القليعة سنة 1920، أيّام المطار، “كأنّها مرت البارحة”. ويقول: “كنت أعمل مزارعاً في السهل عندما بدأ العمل في المطار والمدرّجات بدوره أكّد سليم دعيبس من القليعة المولود سنة 1917، وكان جنديًّا في جيش “فيشي” “أنّ أكثر من نصف أبناء ضيعتنا عملوا في المطار الذي أقيم على أرض زراعيّة خصبة. وكانت سنيِّ عمله قليلة جدّاً، إذ سرعان ما توقّف بعد انسحاب الجيوش الإنكليزيّة والفرنسيّة”.
نهايات بين العدوان والإهمال
يؤكد سليم دعيبس من القليعة المولود سنة 1917، وكان جنديًّا في جيش “فيشي” “أنّ أكثر من نصف أبناء ضيعتنا عملوا في المطار الذي أقيم على أرض زراعيّة خصبة. وكانت سنيِّ عمله قليلة جدّاً، إذ سرعان ما توقّف بعد انسحاب الجيوش الإنكليزيّة والفرنسيّة”. أمّا المستشفى الإنكليزيّ، فقد تولّت و”كالة التنمية الأميركيّة” والسفارة الأميركيّة في بيروت، بعد التحرير، تحويله إلى متحف تراثيّ صرفت على ترميمه أكثر من مليون دولار أمريكيّ، لكنّ إسرائيل قامت بتدميره بغارات طيرانها الحربيّ، وقلبته رأساً على عقب في عدوان تمّوز 2006. ولاقت معظم “الترانشيّات” الإنكليزيّة المصير عينه، إنّما على أيدي أبناء المنطقة ممّن فكّكوا حجارتها واستخدموها في بناء الجدران. ولم يبقَ من الخنادق الإنكليزيّة إلّا مساحات قليلة بعدما اجتاحتها المقالع والكسارات من دون رحمة.
المصدر :مناطق |