الجمعة 17 تشرين الثاني 2023 19:03 م

جرائم وأكاذيب الاحتلال مستمرة


* جنوبيات

مقال من كتاب "إدارة الإرهاب" نشر بتاريخ 28 كانون الثاني 2005
من غزة إلى أوشفيتز

اليوم، موعد الانتخابات في العراق لتشكيل المجلس الوطني الانتقالي الذي سيقر بدوره دستور البلاد. الوضع الأمني متفجر. ومصير العراق على المحك. الصراع المذهبي والطائفي ينذر بمخاطر كبيرة في ظل محاولات تطهير في كركوك ودعوات إلى إقامة وتكريس أقاليم كردية شيعية وسنية في البلاد، وفريق واسع من العراقيين لن يشارك في الانتخابات. والرئيس الأميركي جورج بوش يتوجه بالتهنئة والتحية إلى العراقيين الذين سيشاركون بشجاعة ويرسمون مستقبل بلادهم الديموقراطي، ومسؤولون أميركيون سابقون وحاليون يحذرون من انسحاب أميركي مفاجئ لأن في ذلك هزيمة لأميركا!!

1- الوضع في العراق باختصار مفتوح على كل الاحتمالات السلبية التي ستؤثر على دول الجوار واستقرارها ومستقبلها بالتأكيد. والإدارة الأميركية تتحمل المسؤولية الكبرى في ما ستؤول إليه نتائج السياسات التي اعتمدتها والتي أثارت العراقيين وجيرانهم بشكل عام. لكن هؤلاء الجيران الواقعين تحت التهديد الأميركي المباشر والمستمر والاتهامات اليومية ليسوا في مستوى مواجهة التحدي حتى الآن جماعيا. فكل دولة تبني حساباتها الخاصة وتحاول أن تستفيد مما يجري في العراق وتحمي نفسها وتحقق مصالحها دون أن يعني ذلك أن النجاح مضمون فالكل في دائرة الخطر. وليس ثمة مبالغة في القول إن الوضع في العراق بات يهدد الأمن في كل المنطقة وامتدادا في العالم بسبب السياسة الأميركية المتلاقية مع السياسة الإسرائيلية. وهذا ما يحذر منه كتاب ومفكرون وباحثون استراتيجيون تحت عنوان مكافحة الإرهاب الذي سيتمدد أكثر خلال السنوات المقبلة انطلاقا من أرض العراق.

2- في الأراضي الفلسطينية المحتلة لم تتوقف المجازر الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني كما لم تتوقف ممارسات الإرهاب والإذلال والقمع التي يتعرض لها منذ ما قبل العام 1948، وقد أصبحت القضية الفلسطينية القضية الوحيدة في العالم التي لم يوضع لها حل. وهي قضية شعب احتلت أرضه، طرد منها، من قبل شعب آخر تعرض لمحرقة على يد النازيين في أوروبا. أميركا تساند الإرهاب الإسرائيلي اليوم. وتبرر لإسرائيل حقها في "الدفاع عن نفسها" وأوروبا تعيش حالة انحياز فعلي متدرج نحوها رغم المزاعم الإسرائيلية بتنامي العداء للسامية في تلك المنطقة من العالم، لتبرر لنفسها كل عمليات الضغط والابتزاز التي تمارس على الحكومات الأوروبية المختلفة، وعمليات الإرهاب ضد من تسميهم "النازيين الجدد" والمسلمين الإرهابيين!!

3- في هذا السياق كان لافتا المشهد في أوشفيتز هذا العام، لمناسبة الذكرى الستين لتحرير المعتقل. رجال دين كاثوليك وأرثوذكس وبروتستانت ويهود يصلون معا!! هذا مشهد جيد. إن تتلاقى القيم الروحية والرسالات وتتفاعل مع بعضها البعض على الأرض. هذا شيء مهم وإيجابي للإنسانية جمعاء، لا سيما إذا ما اكتمل بالتلاقي مع الحضارة الإسلامية وبالتعاون والحوار بين كل الأديان، لكن الواقع لا يشير إلى ذلك رغم وجود قوى أساسية في أوروبا تدعو إلى مثل هذه السياسة. ففي أوشفيتز حضر رؤساء روسيا وفرنسا وعدد من الدول الأخرى وكأنهم بذلك يحاولون طمأنة الذين يتحدثون عن "عداء للسامية" ينمو اليوم في تلك البلاد. وأيضا هذا أمر يترك أثرا إيجابيا فيطمئن النفوس ويكرس السلام الداخلي. ولكن السؤال الذي تكرر أمامي أكثر من مرة وأنا أتابع المشهد على شاشات التلفزة التي نقلت الحدث مباشرة هو: ترى هل يقبل ممثلو الأديان هذا الظلم ضد الشعب الفلسطيني؟؟ هل يتلاءم الإرهاب الإسرائيلي ضد شعب أعزل مع الدعوات والرسالات السماوية وجوهر وقيم الأديان؟؟ ترى لماذا لا يجتمع هؤلاء من أجل الصلاة للقدس وتحريرها؟؟ واحترام كنائسها ومساجدها وضمان حرية الناس فيها؟؟ لماذا لا يجتمعون ضد "المحرقة" المفتوحة التي تنفذ بحق الفلسطينيين؟؟ وكيف يعبر هؤلاء عن إنسانيتهم؟؟ وعن مشاعرهم ورسالاتهم؟؟ إن المشهد في أوشفيتز الذي بني على أساس رفض الظلم والقهر والعدوان ليس كاملا لأن المطلوب من الذين اجتمعوا هناك أن يرفضوا الظلم والقهر والعدوان على أرض أخرى وضد شعب آخر فكيف إذا كان الظالم والمعتدي والقاهر والإرهابي هو نفسه الذي يجتمعون حوله متضامنون معه لتعرضه لمحرقة في السابق؟؟

إن مأساة الشعب الفلسطيني لا يجوز أن تستمر. وإذا كان ثمة التزام بضمير حي وقيم روحية وإنسانية وأخلاقية وانحياز لها فالمطلوب من المجتمعين في أوشفيتز ممارستها وإنصاف هذا الشعب.

قد يقول قائل: إن وراء أوشفيتز قضية وشعب وإدارة ومؤسسات سياسية وإعلامية ومالية متحركة بدينامية. هذا صحيح. والأصح أن على الفلسطينيين خصوصا والعرب عموما أن يتعاملوا مع قضية الشعب الفلسطيني على هذا الأساس وأن يتحركوا على كل صعيد دولي وعلي مستويات مختلفة، لكن تقصيرهم لا يبرر ما يجري بحق الشعب الفلسطيني ولا يرفع المسؤولية عن إسرائيل وأميركا خصوصا في تهديد الأمن والسلم العالميين وعن المجتمع الدولي عموما في السكوت عما يجري كما لا يبرر الحملة ضد العرب والمسلمين واعتبارهم إرهابيين وتحويلهم إلى مسؤولين عن عدم الاستقرار في المنطقة والعالم.

المسألة ليست مسألة طوباوية أو رومانسية. فالدول تتعامل على أساس ضمان مصالحها فتتناقض سياساتها مع مبادئها وقيمها لكن ذلك يؤدي في النهاية إلى عدم استقرار أيضا.

4- في هذا السياق مثلا كان الحدث في دافوس هذا العام مميزا. فقد دعا الرئيس الفرنسي جاك شيراك إلى فرض ضريبة دولية لمعالجة الفقر والإيدز وغيرها من المشاكل. وأضاف "أن كارثة تسونامي التي أدت إلى مقتل نحو 300 ألف شخص في آسيا يجب أن تجلب ليس فقط المساعدات بل التنسيق الأكبر بين الدول الكبيرة لمساعدة العالم الثالث". وأشار شيراك إلى معاناة العالم مما أسماه "تسونامي الصامتة" التي تتمثل في المجاعة والأمراض المعدية التي قال إنها تؤثر على القارة الآسيوية بأكملها.

بين هذا التوجه وأوشفيتز والموقف من الإرهاب الإسرائيلي والسياسة الأميركية في العراق – في منطقتنا – وفي العالم عموما تلازم كامل ولذلك لكي تكتمل الصورة وتتكرس عدالة الموقف وشموليته يجب أن ينظر إلى كل هذه المسائل نظرة متكاملة انطلاقا من أن الأمراض السياسية والحروب والأمراض الأخرى التي تخلفها والكوارث البيئية التي تسببها كلها عوامل مهددة للأمن والسلام العالميين وإلا بقينا أمام عالم من المتناقضات تحكم مستقبله مصالح الأفراد والأنظمة فترى بعضها هنا إنسانيا وتراه هناك يدعم الإرهاب كما ترى البعض الآخر بين هذا وذاك لكنك لن ترى العالم في مثل هذه الحالة إلا متفجرا!!

المصدر :جنوبيات