الثلاثاء 21 تشرين الثاني 2023 19:15 م |
في عيد ميلادها ... كيف علمتنا فيروز أن نحبّ فلسطين ونشتاق إليها؟ |
* زينب شميس وُلدت فيروز في الواحد والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر العام 1935، أيّ أنّها كانت طفلةً في الثالثة عشرة عندما حدثت النكبة، ولا بدّ من أنّها سمعت، في حينه، عن كتيبة صغيرة من اللبنانيّين توجّهت إلى الحدود لتقاتل إسرائيل، منذ اليوم الأول لقيامها، ولعلها منذ ذلك اليوم تحبّ الفدائيّين، وتغنّي لهم كلّما عبروا غابة أو حدودًا، ولم يعودوا مع الثلج، ولم ينصتوا لعواء الذيب الذي يريد عودتهم ليطمئنّ. اليوم تبلغ فيروز الثامنة والثمانين من عمرها، وأتصوّرها الآن ربّما، جالسة في غرفتها، تشاهد التلفاز وتغنّي الفدائيّين ورودًا، وتصلّي لأطفال غزّة كي يعودوا يومًا إلى الحيّ، ويغرقوا في “دافئات المُنى”، حيث لا يتسرّب المطر والبارود إلى أجسادهم، وحيث ينامون كما ينبغي أن ينام الأطفال، في أحضان أمّهاتهم، مدّثّرين بالحبّ في وجه العواصف والبرد. فيروز أكبر من الاحتلال، هي التي غنّت لنا عن فلسطين، وطبعت في ذاكرتنا أسماء مدنها، وألوان الشوارع فيها، ورائحة الورد والليمون، وسمك البحر في يافا، وشكل التلال، وجعلتنا نقسم معها كلّ مرّةٍ في مطلع أغنيتها، أنّنا لن ننسى فلسطين، وسمحت لنا، أن نهرب معها من الواقعيّة التي باتت اليوم أقسى ألف مرّةٍ من الزمن الذي غنّت فيه فيروز لزهرة المدائن، وأن نحلم لدقائق قليلة، أنّنا سنصلّي في القدس، صلاةً شاعريّةً لا وضوء ولا تراتيل فيها، نصلّي من أجل القدس فقط، كأنّها إلَهنا المنشود، وأنّنا سنأتيها غضبًا ساطعًا، لا منكسرين مهزومين، بكلّ ما نمتلكه من عزمٍ وإيمان وقوّة، “كوجه الله الغامر”، سنأتي.
تروم فيروز بعزلتها اليوم عن المشهد، لكنّنا نستحضرها في الأغاني التي نتمسّك فيها بالأمل، بفلسطين الحرّة، برغم أنف العالم وكلّ ما تشهده هذه البلاد اليوم وأهلها من مجازر دمويّة لم نرَ في حياتنا القصيرة ما يضاهيها ألمًا وقسوةً، في ظلّ صمتِ العالم المريب، بفلسطين جارتنا، حاراتنا المتشابهة وثقافتنا المشتركة، مائدتنا التي كانت قبل الاحتلال عابرة لكلّ الحدود، بفلسطين القضيّة التي علّمتنا كلّ مفاهيم المقاومة والإنسانيّة وحبّ الوطن، بفلسطين من البحر إلى النهر، النهر الذي سيمحو آثار القدم الهمجيّة، كما أنشدت فيروز. زارت فيروز فلسطين مطلع العام 1963، أيّ قبل “النكسة” بأربع سنوات، وحلّت ضيفةً مع الأخوين الرحبانيّين وفرقتها في رام الله، ورتّلت ليومين متتالين على طريق الآلام وباب العمود في القدس، أمام أعين وعدسات العالم، وتجوّلت في شوارع المدينة وأزقّتها، وتحدّثت إلى أهلها، من ثمّ غنّت “القدس العتيقة”، وأخبرتنا بأسى معهود، عن رحلتها القصيرة في حاراتها، أمام ما تبقّى من دكاكين فلسطين، وعن المزهرية الهديّة من أصدقائها الفلسطينيّين، وعن العيون الحزينة لأهلها، وبيوتهم التي عمّروها تحت الشمس وتحت الرّيح، وشبابيكهم المزهرة، وأطفالهم الذين كانوا يحملون الكتب، قبل أن يسيل الحقد والشوك والنار في مدينتهم، ويسرق من البيوت أصحابها، ومن الأطفال ضحكاتهم.
وعلى عكس كلّ ما غنّته فيروز لفلسطين من قصائد مكتوبة بالفصحى، غنّت القدس العتيقة باللهجة اللبنانيّة المحكيّة، كأنّها تغنّي لقرية صغيرة في جبل لبنان، فكسرت كلّ حواجز الجغرافيا والحرف بيننا وبين المدينة التي تبعد عنّا مسافة ساعاتٍ واحتلالٍ عتيق. في نهاية هذه الأغنية، تذكّرنا فيروز أن نقاوم على طريقتنا، أن نتذكّر فلسطين ونذكّر العالم بها، حيث ترجو هي أن تصير أغنيتها عاصفة، وأن يبقى صوتها عاليًا، لعلّه يحرّك الضمائر، ويهزّها. لعلّنا مثل فيروز اليوم، لا نملك في هذه المعركة أكثر من صوتنا لنصرخ به أمام كلّ العالم، لنخبره بما جرى، منذ النكبة حتّى اليوم؛ عن أرضنا وأطفالنا وشوارعنا وأحلامنا، وما فعله بنا الاحتلال منذ قيامه وحتى الساعة، وأن نتمسّك بآخر ما نملكه من أسلحة في وجه الطائرات والدبّابات وآلات الموت اليوميّ، بحناجرنا التي لن يستطيعوا خنقها مهما حاولوا. لطالما غنّت فيروز للمدن والبلاد التي أحبّتها، وضمّنت أغنياتها التراثية أسماء القرى المنسيّة، والجدران التي زارتها، فسمعنا عن بعلبك الحضارة والفنّ، ما لم نسمعه في نشرات الأخبار المعاصرة، وانتقلنا في بوسطة وهميّة لأجل عيون عليا من ضيعة حملايا على ضيعة تنّورين، قبل أن نقرأ عنهما في كتب الجغرافيا. وكذلك غنّت للشام، وبغداد، ومكّة، ومصر، وعمّان، وكان لها في الأغنية بيت صغيرٌ في كندا، لا يعرف أحدٌ طريقه. وغنّت لنا بيروت، الصخرة ووجه البحّار القديم، عن طعم النار والدخان، ومجد الرماد فيها، في زمنٍ كان فيه الناس يصوّبون بنادقهم إلى المكان الخاطئ، وكان الموت فيه مجّانيًّا، وعادت هذه الأغنية، لتفتح فينا جراحًا متوارثةً، لمدينتنا التي عرفت الموت الحديث المجهول، في الرابع من آب، منذ ثلاثة أعوام مضت. لفلسطين غنّت فيروز، للقدس ويافا وبيسان، القدس التي زارتها وكانت قبلة صلاتها، ويافا المدينة العريقة التي اقتبستها عن لسان الشاعر الفلسطينيّ المولود في حارة الزيتون في مدينة غزّة هارون هاشم رشيد، الذي كتب عن يافا التي أحبّها وزارها، قصائد حبّ وحسرةٍ كثيرة، اختارت منها فيروز قصيدة “الغرباء”، و غنّتها للمرّة الأولى في العام 1956، من ثمّ عادت لتغنّي يافا بعد أحد عشر عامًا في أغنية “أذكر يومًا كنت في يافا”، ووعدتْها أنّنا جميعًا سنرجع إليها. أمّا بيسان، المدينة التي لم تعرفها فيروز، ولم تصرخ في شوارعها، ولم تطأ قدماها حبّة ترابٍ واحدة من ترابها، فقد غنّتها كما يغنّي مغتربٌ وطنه الذي غاب عنه طويلًا، ولمّا يزل يحنّ إلى بيته القديم فيه، وإلى ملاعب الطفولة، والشبابيك، والبيّارة، فأغرقتنا نحن أيضًا في هذا الحنين، إلى يافا، والقدس، وفلسطين الزاهية الحرّة الكاملة، هذا الحنين الذي ورثناه، وأبقيناه حيًّا فينا. المصدر :مناطق نت |