بأقلامهم >بأقلامهم
ما بعد التشييع.. اليوم التالي عند "الحزب"



جنوبيات
لم يكن المشهد عاديّا، يوم الأحد الماضي. كُنّا أمام لحظة عاطفية في وداع رجل تصدّر قيادة حزب االله لأكثر من ثلاثين عاماً حيث كان عنوانه الأساس مقاومة الاحتلال الإسرائيلي قبل أن يتشعّب ويتوسّع الدور إلى حد الإنخراط في الصراعات العربية الداخلية. وعلى أهميّة المشهد بلحظته العاطفية لجمهور الحزب والمقاومة بعد حرب دفع السيد حسن نصرالله نفسه ثمنها والحزب ولبنان معهما، لا بدّ من التوقّف عند عدد من النقاط التي يمكن استخلاصها من تشييع الأحد وطرح عدد من الإشكاليات والنقاط حول ما يمكن أن يكون عليه اليوم التالي للحزب، تبعاً للمتغيّرات التي طرأت على الساحتين المحلية والإقليمية.
مرّت خمسة أشهر بين تاريخ استشهاد السيد حسن نصرالله وبين تشييعه، وبين هذين التاريخين، يختصر انقسام الرأي العام العربي واللبناني حول هوية حزب الله كمجموعة مقاومة وحول رمزية اغتيال إسرائيل لأمينه العام وصولاً إلى التشييع دلالات كثيرة على الحزب التوقف عندها.
من هنا، لا بدّ من العودة إلى العام 1992 وتحديداً بعد تاريخ 16 شباط/فبراير، حيث استطاع الأمين العام المُعيّن حديثا حينذاك، وفي سنوات قليلة، من إحداث تغيّرٍ جذريٍ في سياسة الحزب أولاً، وفي توسيع القاعدة الجماهيرية الشعبية بما يتجاوز الطائفة الشيعية وفي تغيير صورة الحزب التي رافقت نشأته في الثمانينيات الماضية، وهي عقيدته التي لا تقتصر على مواجهة الاحتلال فقط، لكن أيضا لفرض مشروع الوليّ الفقيه في لبنان، وهو ما تمّ ذكره في "الرسالة المفتوحة" التي أذاعها، السيد إبراهيم أمين السيد، الناطق الرسمي باسم الحزب في العام 1985.
كان السيد حسن أكثر واقعية في التعامل مع خصوصية بلده، أي لبنان، في مشروع حزبه السياسيّ. لقد فهم نصرالله أن اعتماد الخطاب المذهبي، وبرغم ما يمكن أن يترتب عليه من مكاسب ضمن الطائفة الشيعية، إلا أنه سيعزل الحزب في الداخل اللبناني وفي المحيط العربي وسيضرب فكرة المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي وينزع عنها الشرعية أو الحاضنة الشعبية وبخاصة تلك العابرة للطوائف، وهو ما تحاول إسرائيل بشتّى الطرق بلوغه للقضاء على المقاومة نهائياً. وهكذا، طغى الخطاب الوطني اللبناني والموجّه تحديداً وحصراً إلى الصراع ضد العدوّ الإسرائيلي الذي كان يحتلّ الجزء الأكبر من جنوب لبنان والبقاع الغربي. بالطبع، ساعد المقاومة آنذاك في الحصول على شرعيتها الشعبية وامتدادها الوطنيّ أولاً والعربي ثانياً إبرام تفاهم نيسان (أبريل) ١٩٩٦ الذي عمل على إنجازه الرئيس الشهيد رفيق الحريري، بشراكة كاملة مع االقيادة السورية وقيادة حزب الله، وتكرّس بموجبه حقّ المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي إستناداً إلى القانون الدولي.
مع تحرير القسم الأكبر من جنوب لبنان والبقاع الغربي في العام 200 باستثناء منطقة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا المتنازع عليها بين لبنان وسوريا والاحتلال الإسرائيلي في فلسطين المحتلة، اتسعت جماهيرية المقاومة الشعبية ليس فقط في لبنان بل في العالم العربي أيضاً، وتكرّس هذا الحضور في العام2006 بعد حرب تموز على الرغم من التوترات المذهبية والانقسام الذي رافق اغتيال الرئيس رفيق الحريري. حينها، رفعت صور السيد حسن في عواصم عربية عديدة باعتباره قائد المقاومة الذي أذلّ الاحتلال الإسرائيلي وحقّق التحرير في العام 200 ثمّ انتصر على إسرائيل مرة ثانية في العام 2006.
بعد ذلك بسنوات قليلة، دخل لبنان والمنطقة في مخاض الشرق الأوسط الجديد الذي خطّطت له الولايات المتحدة الأميركية منذ قرون. بالطبع، كان جزء من هذا المشروع هو شيطنة كل حركات المقاومة وصولاً إلى تدميرها كمقدمة للتطبيع في المنطقة العربية مع الاحتلال الإسرائيلي وتصفية القضية الفلسطينية. في تلك المرحلة أيضاً، تصاعد النفوذ الإيراني في المنطقة بشكل غير مسبوق، ولا سيما غداة الغزو الأميركي للعراق (2003) وتحوّلت عدد من العواصم العربية ومنها بيروت بطبيعة الحال إلى ساحة للاشتباك السني الشيعي وصولاً إلى الحرب في سوريا ثمّ اليمن والعراق وغيرها. في البدء، علّل حزب الله مشاركته في الحرب السورية بعنوان “الدفاع عن المقدسات الشيعية” وعن الحدود اللبنانية ضد تنظيم "اعش" الإرهابي وعدد آخر من التنظيمات الإرهابية التي كانت تقتل وتدمّر باسم الدين، والتي لا يمكن فصلها عن مشروع الشرق الأوسط الجديد.
غير أن الحزب لم يقم بالفصل المطلوب والضروري بين محاربة "داعش" على الحدود اللبنانية السورية وبين توق قسم كبير من السوريين للتغيير في بلدهم، حيث تحوّلت التظاهرات التي خرج فيها السوريون للمطالبة بالتغيير إلى فصل طويل وقاتم من الحروب الأهلية بين أبناء الوطن الواحد. وبدل أن يقرأ حزب الله المشهد المرسوم في المنطقة جيداً وينكفئ بالتالي إلى الحدود لحمايتها ضد تسلّل "داعش"، حماية لشرعية مقاومته الوطنية، اتسع حجم الانخراط العسكري للحزب في سوريا ليسقط في مستنقع الاقتتال السوري. وهكذا، تحوّلت المقاومة بنظر الغالبية في العالم العربي من حركة مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي في لبنان وفي فلسطين، إلى حركة مذهبية شيعية تشارك في قتل "أهل السنة" في العالم العربي خدمة لمشروع إيران التوسعيّ. وما لبثت أن اتسعت الفجوة بين الحزب ودول عربية أخرى بعد انخراطه في حرب اليمن وغيرها، وإقدام قيادته على شن حملة سياسية ضد دول عربية انخرطت في حرب اليمن لا سيّما السعودية.
لم يخسر حزب الله وحده في الحرب ولا سيما مع اغتيال السيد نصرلله، بل خسر لبنان حرباً قاسية ضد الاحتلال ستتكشّف تبعاتها السياسية والأمنية في المرحلة المقبلة إذا استمرّ الانقسام الداخلي اللبناني والمتاريس الداخلية الكثيرة التي عادت إلى الواجهة إذا لم يحصّن الجميع الساحة الداخلية أولاّ، من خلال القيام بالإصلاحات المطلوبة لمعالجة الانهيار الاقتصادي
التزامن مع انخراط حزب الله في صراعات على أرض الإقليم، كان الحزب يواجه استحقاقات عديدة ولا سيما تحديد وإدارة علاقة الحزب بالدولة اللبنانية.
فبعد خسارته للضمانة وللحماية التي وفّرها له الرئيس الشهيد رفيق الحريري ولاحقاً ما نتج من آثار حادثة 7 أيار 2008 التي ما تزال تردداتها حاضرة حتى يومنا هذا، ثمّ خسارته التدريجية للضمانة الوطنية التي تمثّلت بـ"تفاهم مار مخايل" مع التيار الوطني الحر والذي بدأ بالتراجع تدريجياً وصولاً إلى الخلاف بين الجانبين حول العديد من عناوين السياسة اللبنانية، لتتسع تدريجياً الهوة بين الحزب وبين شريحة كبيرة من اللبنانيين، وبات كثيرون يرفضون الفصل بين دور الحزب كحركة مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي وبين ودوره كحزب سياسيّ له التأثير الأكبر في القرار السياسي اللبناني بسبب بدعة “الثلث الضامن” في حكومات ما يسمّى “الوحدة الوطنية”، منذ ولادة اتفاق الدوحة حتى الأمس القريب.
استعاد حزب الله في معاركه شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"؛ العبارة التي قالها يوماً ما الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر والتي ساهمت في إفقاده جزءاً لا بأس به من قوّته الداخلية وحاضنته الشعبية بسبب ممارسات ما يزال المصريون حتى يومنا هذا يعتقدون بأنها ساهمت في القضاء على الديموقراطية في مصر وفي دخول البلاد في حالة اقتصادية صعبة بسبب السياسات الداخلية الخاطئة. وهكذا، وتحت هذا الشعار، وضع حزب الله تدخله في حروب اليمن والعراق وسوريا في خانة حماية المقاومة، دون أي يعير أي اهتمام أو بالحدّ الأدنى دون أن يعي خطورة الشرخ الطائفي والمذهبي الذي نتج عن ذلك، وتحت هذا الشعار أيضا، مارس الحزب الفوقية والعنجهيّة ضد أي معارض لسياسته أكان في تدخله في الدول العربية أو في سياسته الداخلية، حتى بات قسم كبير من اللبنانيين يعتبر بأن الحزب يرتهن لبنان خدمة لمصالح إيران في المنطقة.
الآفاق والتحديات على الرغم من الحشد الهائل وما عبّر عنه الجمهور من وفاء كبير للحزب، إلا أن هذه المشهدية افتقدت للحاضنة الشعبية العربية والداخلية العابرة للطوائف، باستثناء عدد قليل من الحلفاء في لبنان ودول عربية، وكان من الطبيعي أن تكون هذه الحاضنة موجودة في وداع شخصية واجهت الاحتلال الإسرائيلي وانتصرت عليه في العام 2000 وتحوّلت إلى الشخصية الكاريزمية والجماهيرية الأولى في العالم العربي، وفتحت جبهة لإسناد غزة ولم تتراجع عن مواجهة الاحتلال حتى التضحية بالنفس وقبلها التضحية بفلذة كبدها (الشهيد هادي).
نعم؛ عبّر جمهور حزب الله عن وفائه لقائده، وهي رسالة بالدرجة الأولى بأن هذا الجمهور ما يزال حاضراً برغم الانتكاسة الكبيرة والمؤلمة جرّاء الحرب الأخيرة وبرغم اغتيال إسرائيل لرأس هرم المقاومة، وبالطبع كل من يعتبر أن حزب الله انتهى سياسياً في الداخل اللبناني، عليه أن يُعيد قراءة المشهد والمعطيات. في المقابل، لا يمكن إعطاء أي دلالات لهذا المشهد تتجاوز الساحة الداخلية اللبنانية، ذلك أن دور الحزب الإقليمي كأقوى حليف لإيران أو لما يعرف بـ”محور المقاومة” انطوى مع اغتيال السيد نصرالله، أقلّه في المدى المنظور ولعوامل عدة.
بالأمس، خرج الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم في خطاب من منبر المدينة الرياضية، حدّد من خلاله الإطار العام لدور الحزب في المستقبل القريب بالحدّ الأدنى. ولعلّ أهمّ ما جاء في خطاب قاسم بالأمس هو إشارته إلى أن المقاومة باقية ولكن بشكل مختلف، وبأن الحزب يلتزم باتفاق الطائف ويثق بالجيش اللبناني في الدفاع عن لبنان وفي تسلّم الحدود ويؤيّد العهد الجديد ورئيس الحكومة. بالشكل وبالمضمون، لم يختلف خطاب الشيخ قاسم عن كل خطاباته السابقة منذ تسلّمه قيادة حزب الله أكان في التأكيد على العلاقة العقائدية والعضوية مع إيران، وفي البقاء كمقاومة مستعدة للدفاع عن لبنان، وأيضا كحزب سياسيّ يؤيّد الرئاسة والحكومة والجيش واتفاق الطائف ونهائية الكيان اللبناني.
في القسم الأول من المقال، أشرت إلى أن حزب الله لم يتمتّع بالحصانة الداخلية إلا بعد "تفاهم نيسان" مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري و"تفاهم مار مخايل" مع التيار الوطني الحرّ بزعامة العماد ميشال عون الذي شكّل الغطاء المسيحي الوطني للحزب في أصعب مراحل الانقسام اللبناني. كما أشرت إلى أن الحزب كحركة مقاومة لم يتمتّع بالحصانة الشعبية العربية وحتى الرسمية إلى حدّ ما إلا عندما كانت حركة مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي قبل أن ينغمس في مستنقع الصراعات والحروب الطائفية والمذهبية. من هنا، كان يُمكن للأمين العام الجديد الشيخ نعيم قاسم أن يقرأ المشهد الذي فصل بين تاريخ اغتيال السيد حسن نصرالله وبين تشييعه، أمس الأول، وأن يُؤسّس خطاب المدينة الرياضية لمرحلة جديدة يتصالح فيها الحزب مع الداخل اللبناني أولاً والمحيط العربي ثانياً. فإذا أراد حزب الله أن يحمي جمهوره أولاً ومواجهة أي مخطط لعزله داخلياً وعربيّاً وصولاً إلى تقسيم لبنان، عليه مقاربة دوره في المرحلة المقبلة من خلال الأخذ بالاعتبار نقاطاً عدة قد تؤسس لمرحلة جديدة إيجابية من خلال الآتي:
أولاً:
إعادة الاعتبار إلى البعد العربي في أدبيات حزب الله وذلك في سياق مراجعة شاملة لكل المراحل التي كان فيها الحزب طرفاً في الحروب المذهبية والطائفية.
ثانياً:
تقديم مراجعة تشرح طبيعة دور الحزب في سوريا تكون موّجهة للشعب السوري بالدرجة الأولى وللشعوب العربية بالدرجة الثانية، لا سيّما مع الاتهامات المتكررة بأن مقاتلي الحزب شاركوا في قتل المدنيين السوريين، كما لدوره أو تدخّله في اليمن والعراق والكويت ومصر وغيرها من الدول العربية.
وهذا يتطلّب مدّ اليد إلى الدول العربية ودعوتها إلى المصالحة وإلى إنهاء الخلافات المذهبية والطائفية لمواجهة مشاريع الاحتلال الإسرائيلي التي أعلن عنها جهاراً وتحديداً في ما يخصّ تهجير أهل غزة.
ثالثاً:
تقديم مقاربة جديدة لدور الحزب كتنظيم سياسيّ داخليّ، بحيث يكون دعم رئاستي الجمهورية والحكومة بالفعل من خلال عدم إفشال أو مهاجمة أي خطة للمساءلة والمحاسبة، والتقدم من خلال النواب باقتراحات لمشاريع انقاذية اقتصادية واجتماعية وتنموية والابتعاد عن لغة المظلومية، وبالتالي المزيد من الانخراط مع كل الشركاء في الوطن وإعادة تنظيم وتأطير خطاب حزب الله الإعلاميّ، سواء عبر المسؤولين الحزبيين أو الإعلاميين الذين يدورون في فلكه والذين لعبوا دوراً سلبياً على صعيد الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي من خلال الخطاب الفوقي والتخويني للمعارضين.
ما هي أبرز المعوّقات التي يُمكن أن تحول دون هذا الانفتاح؟
حدوث انقسام داخليّ في الحزب يجعله أجنحة تختلف في مقاربتها لدوره في المرحلة المقبلة. عدم القدرة على الفصل بين ارتباط الحزب العقائديّ والسياسيّ بإيران وبين خصوصية لبنان وعلاقته ومصالحه مع محيطه العربيّ. الاستمرار في اتباع خطاب يقوم على فكرة الاستهداف الوجودي للطائفة الشيعية والذي من شأنه أن يزيد الشرخ بين جمهور الحزب بشكل خاص و”الثنائي” بشكل عام وبين باقي الأفرقاء اللبنانيين، مما قد يؤدي إلى مشاكل داخلية بأشكال عدة لا يحتاجها الحزب اليوم ولا يتحمّلها الداخل اللبناني. عدم الرغبة بالاعتراف بنتائج الحرب وتبعاتها على الساحة الداخلية، وبالتالي الاستمرار في السياسة نفسها في الشؤون الداخلية اللبنانية، والالتفاف على القرار 1701 لا سيّما حول مسألة معالجة سلاح المقاومة.
يقف حزب الله ومعه لبنان على مفترق طرق في الكثير من الملفات التي تبدأ بالمصالحة الداخلية ولا تنتهي بمسألة الصراع مع إسرائيل وخطورة المشروع الإسرائيلي على لبنان والمنطقة. فعلياً؛ لم يخسر حزب الله وحده في الحرب ولا سيما مع اغتيال السيد نصرلله، بل خسر لبنان حرباً قاسية ضد الاحتلال الإسرائيلي ستتكشّف تبعاتها السياسية والأمنية في المرحلة المقبلة إذا ما استمرّ الانقسام الداخلي اللبناني والمتاريس الداخلية الكثيرة التي عادت إلى الواجهة إذا لم يحصّن الجميع الساحة الداخلية أولاّ، وذلك من خلال القيام بالإصلاحات المطلوبة لمعالجة الانهيار الاقتصادي والسياسي حيث يتحمّل الجميع المسؤولية قولاً وفعلاً. فكيف سيقرأ حزب الله مشهد ما بعد الحرب؟ وهل سيُحوّل خسارته في الحرب إلى فرصة لفتح الآفاق الداخلية والخارجية، أم سيغرق في المعوّقات؟


