عام >عام
الأزمات القلبية وزحمة السير.. بقلم د.طلال حمود
الأزمات القلبية وزحمة السير.. بقلم د.طلال حمود ‎السبت 17 11 2018 14:07
الأزمات القلبية وزحمة السير.. بقلم د.طلال حمود

جنوبيات

ازمة ازدحام السير والغرق في الشوارع والتوتر الناتج عنه وخطر الاصابة بامراض القلب والشرايين والجلطات الدماغية:

لقد استوقفني كثيرا” اليوم ما حدث من زحمة سير خانقة شّلت تقريبا” كل مداخل بيروت خاصة” الشمالية منها ومنظر البحيرات والشلالات والنوافير التي ظهرت في منطقة الرملة البيضاء وكأنّ بلدية بيروت قررت بين ليلة وضحاها أن تحوّل جادة الشهيد الرئيس رفيق الحريري الى حديقة غنّاء مع نوافير رائعة للمياه وانتظرت هذه الشتوة القوية لكي تفاجئنا بالكشف عن هذه الحدائق دون سابق انذار لكي لا يزدحم عليها الزوار بشكل مباغت ممّا قد يسبب ازدحاما” كبيرا” في تلك المنطقة ومما قد يؤدي الى اتهام تلك البلدية بالتقصير.وقد ازدحمت مواقع التواصل الاجتماعي بتعليقات كثيرة ساخرة من هذه المناظر المقززة ومن الطبقة الحاكمة التي أوصلتنا الى هذا الوضع مع تعليقات عنيفة جدا” على مع ما صاحب ذلك من احتجاز مطوّل للمواطنين القادمين الى أعمالهم او مدارسهم او جامعاتهم او المستشفيات التي يتعالجون فيها لساعات طويلة وما رافق ذلك من فوضى عارمة وقلق و توتر وانفعال وشعور المواطنين بخيبة أمل عارمة واذلال كبيروشعور بسخط واسع تجاه كل المسؤولين في هذا البلد الذي يشعر مواطنوه منذ فترة طويلة وطويلة جدا” بأنّ مسؤوليه باعوهم بأبخث الأثمان واستخفوا بأدنى مقومات حياتهم واستسلموا لغرائزهم وأصبحوا, في معظمهم ,لاهتين وراء كرسيّ من هنا ووزارة من هناك أو صفقة من هنالك وسخّروا كل طاقاتهم للهدر والسرقة و السمسرة والمحاصصة وتركوا هذا الشعب-القطيع بلا راع يرعى أموره أو مسؤول يسأل عنه وعن شجونه وهمومه وأحزانه .

ممّا دفعني بسرعة الى التعليق على هذا المشهد المستفز الذي يتكرر تقريبا” كل سنة مع بداية فصل الشتاء او عند تنظيم بعض المناسبات أوالاحتفالات في شوارع العاصمة بيروت وقرّرت كتابة هذه الأسطر القليلة عن علاقة هذه الظاهرة والتوتر الذي يصاحبها والمشاكل الصحية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية التي تصاحبها خاصة” في ما يتعلق في مجال أمراض القلب والشرايين.

انّ تاريخ دراسة العلاقة بين الدماغ والقلب و بين التوتر والقلق والاكتئاب وامراض القلب والشرايين تعود جذورها الى سنوات طويلة وعصور قديمة. وقد كان الطبيب الكندي المشهور (ويليام اوسلير) محقا” جدا” سنة 1907 عندما كتب انّ اي مهنة فيها الكثير من المسؤوليات تزيد من خطر الاصابة بأمراض القلب والشرايين. وقد اظهرت الدراسات اللاحقة التي أتت فيما بعد انّ التوتر النفسي هو عامل مستقل ومؤكد لزيادة الاصابة بأمراض القلب والشرايين.كذلك وأظهرت دراسات أخرى نشرت في سبعينيات القرن الماضي ان الاشخاص الاكثر عرضة لأمراض القلب والشرايين هم أشخاص ذوي أطباع بشرية معيّنة صنّفت بالشخصيات ذات الطبع “ا” وهم أشخاص غالبا” ما يكونون عدائيين ولديهم تقريبا” مشاكل مع كل من يتعاطون معهم ويتميزون بأنّهم يتحملون مسؤوليات كثيرة وعندهم حرص كبير على القيادة والمنافسىة والصراع والتحدي والاهتمام المفرط بالعمل وتنوع النشاطات وبالعمل الدؤوب لمكافأة النفس وتجاهل المصاعب والدقة في المواعيد وكثرة المتطلبات والسرعة في الكلام. , كذلك وأظهرت دراسات أخرى أنّ امراض القلب والشرايين تصيب أكثر الطبقات الاجتماعية والاقتصادية الفقيرة او الغير مثقفة ذلك بسبب عدم وعي و ثقافة هؤلاء الاشخاص لعوامل خطورة هذه الأمراض وعدم قدرتهم على مقاومة كل الضغوطات المعيشية والنفسية والاجتماعية التي تحيطهم في بيئة العمل أو في المنزل أوتلك التي تمارس عليهم من قبل مرؤوسيهم بسبب التراتبية الموجودة في العمل ولكثرة لجؤهم الى اعتماد عادات صحية غير سليمة مثل التدخين والكحول والمخدرات ولعدم قدرتهم المادية للحصول على أقل مقومات الطبابة العادية وعلى القيام بالتمارين الرياضية لعدم توفر الامكانيات المادية ولتعرضهم أكثر من غيرهم للاصابة بالبدانة والسكري وغيرها من الأمراض.

أمّا الاشخاص الذين تمّ بحسب تلك الدراسات تصنيفهم بأنّهم أقل عرضة للاصابة بأمراض القلب والشرايين فئة “ث” فهم اشخاص يتميزون بالخضوع بسهولة للغير والتفكير العميق قبل اي عمل وسعيهم الدائم لايجاد الحلول الوسط والتسويات وتحاشي المشاكل والمناكفات مع الآخرين. وهم في مقابل حمايتهم النسبية من الاصابة بأمراض القلب عرضة أكثر للاصابة بالامراض السرطانية وأمراض جهاز المناعة.

 اذا عدنا اتى موضوعنا الأساسي وهو كيفية تاثير التوتر والقلق الحاد أو الدائم على جهاز القلب والاوعية الدموية فهي نابعة عن أنّ التوتر يؤدي الى زيادة في ضربات القلب وارتفاع الضغط الشرياني وانقباض وتقلص الشرايين التاجية للقلب وزيادة احتياجات القلب والأعضاء النبيلة الأخرى من الأوكسجين والأغذية الأخرى.كذلك يؤدي التوترالحاد أو الدائم الى تغيير نظام الحياة والهروب الى عادات صحية غير سليمة مثل التدخين والكحول والمخدرات اضافة”الى قلّة النوم التي تشكل بحد ذاتها سببا”أساسيا” ومستقلا”لزيادة أمراض القلب والشرايين.

انّ الاحتجاز المطوّل لساعات عديدة للمواطنين العاديين او المصابين بأمراض القلب والشرايين يؤدي الى تظافر كل هذه العوامل التي أشرنا اليها سابقا” والى خطر حدوث انفعالات نفسية وغضب شديد قد يؤدي الى ارتفاع حاد وخطير جدا” في الضغط الشرياني او اضطرابات مميتة في ضربات القلب خاصة” اذا كان هؤلاء الاشخاص يعانون من عوامل خطورة أمراض القلب والشرايين مثل التدخين وارتفاع الضغط الشرياني والدهنيات والسكري وقلة الحركة والبدانة أو اذا كانوا يعانون سابقا” من انسدادات مهمة في شرايين القلب أو خضعوا لعمليات توسيع لهذه الشرايين او لعمليات جراحية قلبية أخرى .ونشير أيضا” الى أنّ كثرة التعرض للقلق تؤدي أيضا” عبر تفاعلات بيولوجية مختلفة الى زيادة التدخين والجنوح نحو نظام غذائي غير صحي (وجبات سريعة-شرائح البطاطس-المكسرات وغيرها)والى قلة الحركة والبدانة وظهور مرض السكري لاحقا” وكل هذه العوامل تفاقم من خطر الاصابة بأمراض القلب والشرايين.وهنا من الممكن بسهولة لكل منّا أن يتفهم الضرر الكبير الناتج عن هذا التوتر اليومي الذي نعيشه في شوارعنا لأسباب كانت في البداية تتعلق في ظروف الحرب الأهلية المشؤومة والحروب الاسرائيلية المتتالية على لبنان وما رافق ذلك من عمليات قتل وتدمير وتشريد وفقر وحرمان .ثم تطورت لاحقا” مع التفجيرات الارهابية التي استهدفت لبنان خلال فترة الحرب السورية المستمرة ونزوح أكثر من مليون ونصف نازح سوري شكّلوا عبئا” اقتصاديا” وانسانيا” هائلا” على بلد يعاني أصلا” من ترهل كل بناه التحتية ومؤسساته وادارته ومن عشعشة وتجذر الهدر والفساد فيها مرورا” طبعا” بتعدّد الأزمات المعيشية والاقتصادية والاجتماعية والبيئيىة المهلكة وما رافق ويرافق كل ذلك من توتر و قلق دائم على مستقبل هذا الوطن ومستقبل أبنائه .

أمّا الطرائق البيولوجية التي تزيد نسبة أمراض القلب عند المرضى الذين يعانون من توتر حاد او مزمن فهي معقدة جدا” وبحاجة الى بحث تفصيلي لاحق. لكننا سنذكر منها وبشكل موجز دور الترابط الوثيق بين العقل والدماغ وتخفيز دور الجهاز العصبي الودي الذي يربط الدماغ بمختلف أعضاء الجسم ومنها القلب وهو المسؤول عن ارتفاع الضغط الشرياني وزيادة ضربات القلب وزيادة الدهنيات والسكري في الدم في حال حدوث توتر حاد أو انفعال كبير عند المريض أو عند أي انسان عادي بقي مسمّرا” قي سيارته لمدة ثلاث أو أربع ساعات وهذا هو العامل الاخطر في علاقة التوتر بأمراض القلب .

كذلك أظهرت دراسات أخرى أنّ التوتر المزمن لأشهر او لسنوات يؤدي الى زيادة افراز مادة الكورتيزون في الجسم عن طريق تعاظم دور المحور الوطائي-النخامي-الكظري وهذا ما نراه أيضا” في الاكتئاب المزمن والذي ينتج عنه أيضا” زيادة مفرطة بأمراض القلب والشرايين لأنه يتسبّب بزيادة نسبة تخثر الدم وارتفاع الضغط الشرياني عن طريق زيادة امتصاص الاملاح والسوائل في الجسم والى امكانية ظهور مرض السكري وحصول البدانة لاحقا”.

انّ كل ما تقدّم يدعونا لمناشدة جميع المسؤولين والمعنيين بالأزمات الوطنية أن- ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء- وأن يبادروا الى ايجاد حلول سريعة ونهائية لأزمة ازدحام السير وتكوّن البحيرات والمستنقعات في شوارع مداخل العاصمة وطرقاتها الفرعية وغيرها من المدن والمناطق اللبنانية ,خاصة” وأنّ المواطن يكفيه ما يعانيه من أزمات معيشية ونفسية واجتماعية واقتصادية وبيئية وصحية وانّه يغرق حتى أخمص القدمين في الأزمات فلا تجعلوه يغرق أيضا” في مياه أمطار السماء التي عادة” تكون نعمة نشكر الله عليها ونستسقيه لهطولها في أوقات الجفاف, لكنها أصبحت وبفضل اداراتكم السليمة وخططكم العلمية, المحكمة والممنهجة ووزاراتكم التي تتقاسمون جبنتها وتلهثون وراءها ,نقمة” على اللبنانيين الذين يكفيهم ما يعانونه من اكتئاب وأمراض عصبية ونفسية وسرطانات ناتجة عن التلوث الذي زرعتموه في كل مكان…..فهل عندكم من صحوة ضمير أو بعض الحسّ الوطني الحي لكي تنقذوا هذا الوطن قبل أن يغرق بالمياه والظلمة والهدر والفساد.