فلسطينيات >داخل فلسطين
"تهريب الحياة".. نطفة الأسير التي مرّغت أنف المحتل بالتراب
"تهريب الحياة".. نطفة الأسير التي مرّغت أنف المحتل بالتراب ‎الاثنين 13 12 2021 16:07
"تهريب الحياة".. نطفة الأسير التي مرّغت أنف المحتل بالتراب

جنوبيات

في الطريق إلى معبر بيت حانون تجلس الطفلة مُنى ذات السنين الخمس في حضن جدها الأسير المحرر أسعد أبو صلاح، وسوف تزور أباها "فهمي" الذي لم تره قط، لقد تركها وهي ابنة أربعين يوما. أثناء الطريق يداعبها جدها: وكيف ستعرفين أباك يا منى؟ فتجيبه على سجية الأطفال: بسيطة يا جدي، سيكون أجمل واحد فيهم.

في صفحة أخرى من صفحات الصمود ضد المحتل الصهيوني، تتفتق عبقرية الفلسطيني عن وسيلةٍ مرّغت أنف المحتل بالتراب؛ إنها وسيلة تهريب نطف الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال إلى أرحام زوجاتهم، لتزهر البراعم الشرعية عن أطفالٍ سيكونون أبطالا يحملون مشاعل النصر القادم.

أنتجت الجزيرة الوثائقية فيلما سلّط الضوء على مجموعة من الأسر الفلسطينية التي عاشت هذه التجربة المبدعة، وصوّرت فيه لحظات الفرح والحزن، والإحباط والنجاح، والتحدي والانتصار، ثم بثته تحت عنوان "تهريب الحياة".

إن معاناة أهالي الأسرى في رحلة العذاب إلى سجون الاحتلال لزيارة أبنائهم لا تنتهي، وقد تفاجئهم سلطات الاحتلال بعد كل ذلك العناء بأن الزيارة ممنوعة، فعلى معبر "بيت حانون" فوجئ أسعد بقولهم: "لا توجد زيارة اليوم"، بينما موظفو الصليب الأحمر الدولي يراقبون ويكتفون بالصمت، ليس بيدهم عمل شيء، فالمحتل يتحكم بالجو والأرض ومن عليها.

لكم أن تتخيلوا كمّ الحسرة والمرارة التي تعيشها الآن أم الأسير وأبوه وابنته عندما طُلب منهم أن يعودوا أدراجهم دون أن يروا حبيبهم الأسير، وكل مرة يمنعون فيها من الزيارة تذكرهم بنفس اللحظات التي اعتقل فيها أول مرة. ولسان حال زوجته يقول: أنا معه مهما طال الزمن، ومهما حاول المحتل أن يفرقنا، لقد حكموا عليه بالسجن مدة 22 عاما، ولكنني سأنتظره.

في المقابل فإن الأسرى أنفسهم يقابلون الوفاء بالوفاء، والحب بالحب، ويكسرون في كل يوم إرادة سجّانهم الذي يريد أن يحرمهم الحياة، هذا روحي مشتهى، تزوج قبيل انطلاقة الانتفاضة الأولى بثلاثة أشهر، واعتقل بعد زواجه بخمسة شهور، وقضى في سجون الاحتلال 25 عاما، ومع هذا تعاهد وزوجته على الحب والوفاء والرباط المقدس، وصبرت وانتظرته كل هذه السنين حتى التقيا ثانية.

أما الأسير أشرف الصفدي من نابلس، فقد اعتقل بعد 18 يوما فقط من زواجه، وحكم عليه بالسجن مدة 21 عاما، وما زالت زوجته في الانتظار على العهد.

ولا يختلف الأمر عند الأسير تامر الزعانين، فبعد مرور شهرين ونصف على زواجه اعتقل وحكم عليه بالسجن مدة 12 عاما، لم تحمل منه زوجته، وتعرضت لضغوطات اجتماعية من الأهل والأقارب، من قبيل أن الافتراق والطلاق سيكون أفضل لها من البقاء في انتظار الزوج حتى يفرج عنه، ولكنها حسمت قرارها وعزمت على انتظار زوجها، مهما طال زمن الفراق.

يعيش الأسرى الأمنيون تحديدا ضمن قانون اعتقال خاص، عنوانه القهر وكسر إرادة الأسرى، ومن مظاهره منع لقاء الأزواج بزوجاتهم، على الرغم من أن هذا اللقاء تكفله الأنظمة والأعراف الدولية، بل ويتمتع به السجناء اليهود. وعلى الرغم من مطالبة الأسرى بهذا الحق، ورفع الموضوع إلى أعلى المستويات، (المحكمة العليا)، فإنها ردته لمصلحة السجون التي قررت إغلاق الموضوع نهائيا.

من هنا بدأت فكرة التلقيح الصناعي تُتداول بين الأسرى الفلسطينيين بشكل معمق، من حيث الحِلّ والحرمة والأعراف الاجتماعية، ومن حيث التقنيات والإمكانيات الفنية والطبية، في غزة خصوصا وفي باقي فلسطين على العموم. ومن جهة الإيجابيات فهي ضمانة لاستمرار الأسرة وعدم اللجوء للطلاق نتيجة البُعد. فوجود مولود لهذين الأبوين البعيدين من شأنه أن يديم علاقتهما ويقوي أواصرها.

ثم بدأت مرحلة إقناع الزوجة، ومن بعدها العائلة والمجتمع المحلي بأسره، بجدوى هذا المشروع الحيوي الجريء، فثقافة المجتمع المحافِظة تجعل قبول هذا الطرح صعبا، ومدة الزيارة القصيرة كل شهر أو أكثر لا تكفي لإقناع الزوجة والأقارب بهذه الفكرة. إلى أن جاءت موجة تهريب الهواتف الخلوية داخل السجون، وأتيحت الفرصة لحديث أطول مع الزوجة والعائلة.

بعد أن اختمرت الفكرة في عقل روحي مشتهى وارتاح لها قلبه، بدأ مشواره الطويل في إقناع زوجته التي ترددت كثرا في البداية، ثم اطمأنت نفسها بعدما سمعت الآراء الفقهية في الأمر، واستمعت لفتاوى الشيخ الشهيد أحمد ياسين والدكتور الشهيد الرنتيسي، وتشجيعهما لهذا المشروع المقاوم، اطمأنت نفسها ورضيت بالأمر، ثم جاءت المرحلة الثانية بإقناع عائلتيهما.

لقد فوجئ الزوجان أن الأمر كان سهلا، بل وقد حصلا على دعم وتشجيع لم يكونا يتخيلانه. لقد أبدع الأسير الفلسطيني وما يزال يبدع -ومن ورائه المجتمع بأسره- في سحق كبرياء السجّان والتعالي على بطشه.

كان التحدي الأكبر هو تهريب النطف إلى خارج السجن، وأدرك الأسرى أن القضية لم تكن همّا اجتماعيا أو شرعيا بقدر ما هي حرب مع السجان المحتل الذي يحاول بكل السبل أن يكسر إرادة الفلسطيني، ويشن معركة بكل ما يمتلك من قوة وتكنولوجيا ضد تهريب الحياة إلى خارج أسوار السجن.

كان تهريب النطف يقع بشكل سرّي ومعقد، وكان الإعداد والتحضير لهذه العملية بمثابة تجهيز لعملية هروب السجين نفسه، ولك أن تتخيل الأسوار العالية والاحتياطات الأمنية الكبيرة، والتكنولوجيا الدقيقة التي يستخدمها العدو لمنع تسلل أي شيء إلى السجناء. وكان أحدهم إذا نجح في إخراج نطفته خارج السجن أحس كأنه هو الذي خرج إلى فضاء الحرية.

تروي زوجة الأسير الزعانين كيف وقع تهريب نطفة زوجها من السجن، وتحكي عن إشهاد بعض الأسرى على العملية من أجل توثيقها، وقد كان من الشهود أخَواها الأسيران مع زوجها في نفس الزنزانة، كما تحكي عن إجراءات التعمية والتمويه التي يمارسها الأسرى على حرّاس السجن وأجهزة الاحتلال الأمنية من أجل ضمان نجاح العملية.

لكن المؤسف أن كثيرا من عمليات التهريب تعرضت للفشل أو الإحباط من قبل حراس الاحتلال. أما عمليات التهريب الناجحة فهي أعراس واحتفالات يقيمها أهل الأسرى، ويقيمون عليها الشهود كذلك، وإذا نجحت عملية التلقيح والزراعة فقد يعلنون عن ذلك من خلال مآذن المساجد.

لم تنجح المحاولات العشرة للأسير مشتهى، ولم يقع التلقيح، على الرغم من خصوبة النطفة المذكرة، وسلامة بويضات زوجته. لكن يبدو أن الله سبحانه لم يكتب لهما أطفالا، وبعد خروج مشتهى من الأسر عاد إلى أحضان زوجته راضيا، واستسلم لقضاء الله سبحانه، على الرغم من محاولات زوجته لتزويجه بأخرى عسى أن يفرح بمولود يناديه "بابا".

أما عائلة أبو صلاح فقد كان لها مع الفرح موعد، فقد نجحت عملية تهريب نطف فهمي، ووصلت إلى المختبر سليمة قوية، وقام بتجميدها لحين الحصول على البويضات من زوجته، ثم وقع التلقيح ونتج عن ذلك أربعة أجنّة سليمة، وقام الطبيب المشرف على العملية بزرعها في رحم الزوجة. ولا تسأل عن السعادة الغامرة التي يعيشها أبو فهمي وأمه وزوجته.

حملت الأيام اللاحقة أخبارا غير سارة لأسرة أبو صلاح، فقد فشلت عملية الحمل، وعاشت العائلة جميعها حالة من اليأس والإحباط نتيجة لذلك، لكن أبا فهمي كان له رأي آخر، فبصفته أسيرا سابقا فهو يعلم أن الشعور بالفشل بالنسبة للأسير هو بمثابة موت فوري أمام سجّانه، لذلك فهو يشدّ من عضد ابنه فهمي ويقوي من عزيمته حتى لا يظهر مهزوما أمام المحتل.

وكما فشلت بعض عمليات التلقيح عند بعض الأزواج، فقد نجحت عمليات أخرى عند آخرين، فهذه هناء الزعانين تعيش فرحا ممزوجا بآلام الحمل الجميلة، تنتظر مولودها الذي ترى فيه روح زوجها الأسير ترفرف في فضاء الحرية، وقد أعدّت سرير الطفل الوثير، واشترت له الملابس، وهي تلبي رغبة زوجها بالاتصال مع الصحافة وشيوخ ووجهاء منطقته ليحضروا هذا الحدث البهيج وليكونوا شهودا عليه.

هذه قصة نجاح أخرى، فسهير الصفدي زوجة الأسير أشرف الصفدي قد خرجت لتوها من عيادة الطبيب المشرف على حالتها، وتبشرنا أنها في شهرها الخامس، وأن الجنين يتمتع بصحة جيدة، سمعت قلبه بنبض بنشاط، وأخبرها الطبيب أنها تنتظر مولودا ذكرا، ولذا فسوف تسميه باسم أمير.

أما فهمي أبو صلاح فقد عمل بوصية والده، وقرر أن لا يستسلم، وواصل محاولاته لتهريب نطفه إلى خارج السجن، وقد نجحت إحدى هذه المحاولات، وها هي زوجته حاملٌ في شهرها الثالث، وتنتظر مولودا ذكرا سوف تسميه أسعد، على اسم جده.

لكن هذه الأسرة مصابة بابتلاء، فقد نُقلت مي أبو صلاح إلى مستشفى الشفاء بغزة في حالة حرجة، كانت في شهرها الثامن، وبعد تشخيص الحالة قرر الأطباء والاستشاريون -بالتوافق مع عائلة أبو صلاح- إنهاء حالة الحمل، من أجل الحفاظ على حياة الأم، والحمد لله فقد أنقذت الوالدة، وما يزال المولود حيا، وهو الآن في حاضنة الخداج تحت الملاحظة الحثيثة.

وفي المستشفى العربي التخصصي في نابلس، يختلط صوت الأذان والإقامة بزغاريد الفرح وأهازيج الانتصار على السجان، فقد ولدت سهير الصفدي مولودا ذكرا، ووجّهت بدورها صفعة قاسية على وجه الاحتلال البغيض، وبدا صراخ طفلها كأنه يقول للمحتل: هذه أرضي، وأنا أولى بالحياة عليها منك، جئتُ رغما عن أنفك.

وعلى الجانب الآخر من الوطن الفلسطيني الشامخ، تلد هناء الزعانين في بيت حانون طفلا ذكرا، وتزف البشرى إلى والده تامر الزعانين خلف القضبان، لينقلب السجن إلى صالة أفراح ترتفع فيها صيحات التكبير وأهازيج الفرح، ولسان حال الأسير يقول لسجّانه: أنا هناك حرٌّ، رغما عنك.

إن هذا المحتل البغيض الذي يتباهى بترسانته النووية وأسلحته الفتاكة وتكنولوجياته المتطورة؛ قد انتصرت عليه نطفة مجهرية وحيوانات منوية لا ترى بالعين، مثلما انتصر عليه من قبل فارس عودة ومحمد الدرّة والشيخ المُقعد الأعزل أحمد ياسين.. انتصرت عليه الإرادة الفلسطينية، والصمود الأسطوري لشعب لا يريد الموت.

وما زالت المعركة مستمرة، أطرافها الوحوش البشرية من المحتلين الصهاينة، وعلى الطرف الآخر هؤلاء المواليد الذي يحملون جينات التحدي ومُورّثات الانتصار، يحاول الصهاينة منع شرعنة هؤلاء الأطفال وسلبهم هوياتهم الوطنية وشهادات ميلادهم بحجة أنهم أطفال غير شرعيين، بينما يُصَعِّد ذووهم وتيرة الرفض، ويخاطبون الجهات القانونية الدولية لتسجيل أطفالهم.

وُلِد أول طفل من نطفة مهربة في 2012، وحتى عام 2015 ولدت 27 أمّا 32 طفلا من نطف أزواجهن المهربة من داخل سجون الاحتلال الصهيوني، وما زال عشرات الأسرى من ذوي الأحكام العالية يحاولون بشتى الطرق تهريب نطفهم الشرعية إلى أرحام زوجاتهم، حتى يستمر التحدي وتزهر طريق الانتصار.

 

 

 

 

 

 

المصدر : الجزيرة