بأقلامهم >بأقلامهم
عنجر وقصر الصنوبر: الإهانة نفسها
عنجر وقصر الصنوبر: الإهانة نفسها ‎الجمعة 7 07 2023 11:22 محمد السماك
عنجر وقصر الصنوبر: الإهانة نفسها


ما هو الفرق بين قصر الصنوبر في بيروت وعنجر في البقاع؟

الجغرافيا مختلفة، وكذلك اللغة.. ومختلفة أيضاً تقاليد الاستقبال والضيافة. لكنّ الهدف واحد، وهو صناعة السياسة، وتحديداً المواقف.

فرنسا ليست سوريا. فلكلّ منهما طريقته في مقاربة الأمور والقضايا. الدبلوماسية الفرنسية تختلف عن العسكريتارية السوريّة في اللغة واللهجة وفي طريقة تقديم النصائح والإرشادات.

في قصر الصنوبر يُصغون إليك باهتمام ويُشعرونك بالاحترام، ثمّ يقولون لك ما يجب أن تفعله أو ألّا تفعله.

في عنجر كانوا يختصرون الوقت. لا داعي للشرح والتطويل. إنّهم يعرفون ماذا تريد، لكنّهم يعرّفونك على ما يجب أن تريد وأن تفعل.

في الحسابات الأخيرة، تكون النتيجة واحدة: وهي أنّ القرار لعنجر أو لقصر الصنوبر!! هنا بقبضة عسكرية، وهناك بلمسة دبلوماسية.

إذا ساءت علاقاتنا مع حليف نبحث عن حليف بديل. وإذا ساءت علاقات مكوِّن ما مع المكوّنات التي تتشكّل منها الأسرة اللبنانية، نبحث عن صيغة للانغلاق على الذات ورفض الآخر، بل والآخرين

إهانة رفيق الحريري أمام مستشاره

سبق لي أن مررتُ بالتجربة يوم كنتُ مستشاراً للرئيس الراحل رفيق الحريري. فقد أوفدني مرّة في مهمّة إلى عنجر لمقابلة اللواء غازي كنعان. تأخّر استقبالي حوالي ربع ساعة. لا أعرف لماذا. ولكن ما إن دخلت مكتبه حتى رنّ جرس الهاتف. حرص اللواء كنعان على أن يكون الصوت مسموعاً، سواء صوته أو صوت محدّثه.

سمعتُ المتحدّث يقول: "سيادة اللواء ماذا تريدنا أن نفعل غداً في جلسة الثقة؟ ما هي توجيهاتكم؟".

بعدما استرسل في تأكيد الالتزام بالتوجيهات، أجابه الجنرال: "انشروا عرضه وعرض الحكومة ثمّ أعطوه الثقة".

كان الأمر يتعلّق بالرئيس الحريري وحكومته.

بعدما استمعت إلى هذه المكالمة الهاتفية، أو بعدما أسمعني إيّاها الجنرال كنعان، أدركت أنّ مهمّتي إليه قد انتهت. فقد عرف الجنرال لماذا جئت. وأدرك السؤال الذي أحمله إليه. وأعطاني الجواب على لسان نائب من شمال لبنان. وكان الجواب كافياً.

كانت عنجر "كعبة" السياسيين في لبنان.. إليها يحجّون.. وحولها يطوفون.. ومنها يستعطون.. وإليها يتزلّفون.. وبها يتباركون.

يبدو الآن أنّ قصر الصنوبر أصبح هذه الكعبة، وإن اختلفت اللغة والمفاهيم والعادات والتقاليد. فالهدف واحد، وهو: ما هي توجيهاتكم؟ أيّ رئيس تؤيّدون أو تريدوننا أن نؤيّد؟ وأيّ مرشّح تستبعدون أو تريدوننا أن نستبعد؟


ليست مشكلة لبنان في مرضه. هو يعرف أنّه مريض. ويعرف الدواء الشافي. وهو يملك هذا الدواء. مشكلة لبنان تكمن في اعتماده على الدواء المستورَد، سواء كان ذلك عبر عنجر أو قصر الصنوبر

"فنجان القهوة".. و"الكريستال"

كان الحديث في عنجر يتمّ على فنجان قهوة مُرّة. وأحياناً يكون الفنجان من البلاستيك. الآن يجري الحديث في قصر الصنوبر على كأس من الشراب، وغالباً ما يكون الكأس من الكريستال. لكنّ النتيجة واحدة: نبتلع مع المشروب التوجيهات (العنجريّة)، أو النصائح (الصنوبريّة).. ثمّ نصدح بأعلى صوت متغنّين بالسيادة والاستقلال والقرار الحرّ.

في العهد "العنجريّ" كنّا لا نستطيع اختيار رئيس بلديّة من دون موافقة مسبقة. وفي العهد "الصنوبريّ" يبدو أنّنا غير قادرين على اختيار رئيس للدولة من دون موافقة مسبقة أيضاً. مع ذلك نستمرّ في التغنّي بالسيادة والاستقلال والقرار الحرّ.

الاعتماد على الخارج، سواء كان هذا الخارج "عنجريّاً" أو "صنوبريّاً"، تحوّل إلى تقليد سياسي، فبات حالنا كحال الطفل الذي تعوّد شرب حليب المعلّبات، فأصبح يرفض ثدي أمّه ولا يستسيغ حليبها. وهذا أدّى إلى تكريس الخارج صانعاً للقرارات السيادية والوطنية: من تعيين حارس الأحراج إلى انتخاب (؟) حارس الدستور.

فالخارج أعرَف من أنفسنا بما هو في مصلحتنا الوطنية. ولأنّ الاعتماد على النفس مشكوك فيه دائماً، فإنّ الاعتماد على الآخر أصبح في ثقافتنا السياسية العمليّة الملجأ والمأوى حيث المخرج والخلاص.

الخارج بدل الداخل

إذا ساءت علاقاتنا مع حليف نبحث عن حليف بديل. وإذا ساءت علاقات مكوِّن ما مع المكوّنات التي تتشكّل منها الأسرة اللبنانية، نبحث عن صيغة للانغلاق على الذات ورفض الآخر، بل والآخرين. فالحلول الجاهزة سلبيّة دائماً: بديل خارجي جديد عن حليف خارجي قديم، وانغلاق داخليّ على الشريك في الوطن والمصير.

على الرغم من كلّ هذه السوداويّة تبقى شمعة أمل مضيئة في زاوية مهملة من زوايا الوطن. وهي زاوية المؤمنين بلبنان الرسالة، الذي هو أكثر من وطن على حدّ قول البابا الراحل يوحنّا بولس الثاني. يدعو هؤلاء المؤمنون إلى إعادة صياغة الوحدة الوطنية على قاعدة إلغاء طائفية الرئاسات الثلاث، وإلى تحرير مجلس النواب من التقاسم الطائفي والمذهبي وانتخاب مجلس شيوخ يمثّل الطوائف جميعاً.

ليست مشكلة لبنان في مرضه. هو يعرف أنّه مريض. ويعرف الدواء الشافي. وهو يملك هذا الدواء. مشكلة لبنان تكمن في اعتماده على الدواء المستورَد، سواء كان ذلك عبر عنجر أو قصر الصنوبر.

المصدر : اساس ميديا