بأقلامهم >بأقلامهم
هل دخل "لبنان الكبير" مخاض "جيوسياسي" جديد؟
هل دخل "لبنان الكبير" مخاض "جيوسياسي" جديد؟ ‎الأحد 23 03 2025 16:56 العميد محمد الحسيني
هل دخل "لبنان الكبير" مخاض "جيوسياسي" جديد؟

جنوبيات

إنها اتفاقية سايكس - بيكو التي أفضت خلال عشرينيات القرن الماضي إلى إخضاع المنطقة لنفوذ الدول الغربية وتقسيمها، تمهيداً لإقامة دولتهم العنصرية الفاصلة بين المشرق العربي ومغربه بعد أن جرى تفتيت العرب إلى دويلات متناحرة. انعكس هذا الأمر ترسيماً اصطناعياً ومشوهاً للحدود بين كل من لبنان وسوريا وفلسطين (قَبل الاحتلال الاسرائيلي) من قِبل سلطات الانتداب الفرنسي والبريطاني. لم تلبّث أن برزت إلى الواجهة خلافات حدودية متشعبة بين هذه الدول، وذلك بسبب تداخل الحدود فيما بينها، إذ لم يراع التقسيم مبدأ التوزيع الديمغرافي والجيوسياسي، ففصل بين المناطق التي تتميز بثقافة واحدة وحياة اجتماعية مشتركة، كما شمل مناطق أخرى كانت أكثر ارتباطاً بجوارها عن السلطة المركزية، فبعد أن تشارك اللبنانيون طوال قرون عند الحدود الجديدة مع السوريين والفلسطينيين العلاقات العائلية والتجارية، وجدوا أنفسهم ذات صباح مقيدين ضمن حدود جغرافية غريبة عليهم، أقرب ما تكون إلى "سد منافذ الهواء عنهم" وهم في الأصل يعانون من مضاعفات الإهمال الرسمي منذ نشأة دولة لبنان الكبير إلى اليوم.

ومما زاد "الطينة بلة" إقفال الحدود الجنوبية بصورة نهائية بعد الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين في العام 1948، وقيام العصابات "الصهيونية" بتهجير آلاف اللبنانيين من القرى السبع (تربيخا، وصلحا، والمالكية، والنبي يوشع، وقدس، وهونين، وآبل القمح) حيث اعتبرها العدو ضمن دولته الجديدة عملاً باتفاقية سايكس - بيكو. لكن الأحداث التاريخية تأبى إلا أن تعيد ذاتها لا سيما أفعال القتل والتطهير العرقي، ليلتقي الأمس البعيد باليوم ولتتفق العصابات في إجرامها مع بعضها البعض، حيث تماثلت عصابات "الجولاني" بعصابات "الهاغانا" عبر تنفيذها لعمليات إجرامية في سوريا، طالت كذلك عائلات لبنانية تقيم منذ مئات السنين في قرى تخضع لسلطة النظام السوري، حيث تمتلك فيها المنازل بصورة رسمية فضلاً عن الأراضي الزراعية الواسعة. وبالعودة إلى ما سبق جنوباً إحتل العدو الاسرائيلي أيضاً مزارع شبعا في يونيو 1967 ومن حينها نشب الخلاف الثلاثي عليها، ففي الوقت الذي يعتبرها لبنان جزءاً من حدوده يُصر الإسرائيلي على اعتبارها أرضاً سورية، وهو ما يتطلّب من الجانب السوري القبول بترسيم الحدود مع لبنان، وهذا ما تهربت منه الحكومات السورية المتعاقبة بما فيهم النظام الحالي. الذي بدوره ينشط عسكرياً وأمنياً على الحدود الشمالية والشرقية بطريقة تحمل الكثير من التساؤل، في الوقت الذي أصبح العدو الاسرائيلي على بوابات دمشق الجنوبية والجنوبية الغربية من دون طلقة رصاص واحدة. أما الأسباب الرئيسة لتجاوزات هذه العصابات، فهي:

1. عدم إقتناع الأنظمة السورية المتعاقبة في أن يكون لبنان دولة مستقلة بكل معنى الكلمة، فضلاً عن اعتبارهم سهل البقاع اللبناني جزءاً من الجغرافيا السياسية التابع للدولة السورية. ومنذ العام 2013 جاء تنظيم "داعش" ليُضفي على هذه الأطماع مخططاً خطيراً يهدد الكيان اللبناني، في محاولاته الوصول إلى ساحل لبنان الشمالي عبر سهل البقاع وربطه بسوريا، وعلى الرغم من استخفاف بعض اللبنانيين في حينها بهذا "الطموح الداعشي"، إن لجهة الصعوبة في تحققه أو لجهة اعتباره "بروباغندا" أطلقها "حزب الله" آنذاك حسب مزاعمهم، فإن تصريحات اليوم لمسؤولي نظام "الجولاني" حول لبنان جاءت لتقطع الشك باليقين ولتؤكد جديّة هذه المخاوف والهواجس.

2. محاولات افتعال حروب على الحدود الشرقية بين لبنان وسوريا، تهدف أولاً وآخراً إلى استصدار قرار دولي بغية نشر قوات أممية بين البلدين، وهذا ليس بالأمر المستجد فقد سبق أن طرح ملف نشر قوات دولية شرقاً خلال مفاوضات وقف إطلاق النار في حرب تموز 2006 تزامناً مع نشرها جنوباً بإدخال تعديلات على القرار 1680 الصادر في شهر مايو 2006 إلا أن الفكرة في حينها لم تكن ناضجة بما فيه الكفاية, لأجل ذلك جرت من بعدها عدة محاولات فاشلة للإيقاع بين الجيشين السوري واللبناني للدفع باتجاه تدخل دولي. واليوم تحت وطأة الاشتباكات المتواصلة على الحدود، عاد الحديث مجدداً حول ضرورة انتشار قوات دولية على الحدود الشرقية تحت عناوين مختلفة … لكنها في حقيقة الأمر كلها تصب في خدمة مشروع اسرائيل الكبرى واستمرار سيطرتها على المنطقة. وإلا ما معنى تزامن الاشتباكات مع التسريبات الأخيرة حول مشروع سلام مع اسرائيل يعّم المنطقة، مع تهديدات بضم جنوب الليطاني إلى اسرائيل؟ وهل ستُكَافأ سوريا "الجولاني" عبر منحها منطقتي البقاع والشمال اللبنانيتين تعويضاً لها عن تسليمها للجولان وما حوله، وعن خسارتها المستقبلية للساحل السوري؟ فهل سيرضى "الجولاني" بما كان يرفضه الأسد؟

3. ممارسة الضغوطات على الحكومة اللبنانية في ملفين بارزين، أولهما ملف المساجين الإسلاميين السوريين واللبنانيين الموقوفين بجرائم مختلفة من تفجيرات ضد مدنيين لبنانيين الى قتل عسكريين في الجيش اللبناني إلى تشكيل تنظيمات إرهابية… وثانيهما ملف الأرصدة السورية المجمدة في المصارف اللبنانية التي تتراوح ما بين 40 مليار دولار و60 ملياراً، وهي في غالبيتها لمقربين من النظام السابق أو لرجال أعمال، تُمني النفس ا الحكومة الجديدة بوضع اليد عليها. فهل يخضع لبنان لهذا الابتزاز؟

لم يعد خافياً على أحد أن محاولات زج اسم "حزب الله" في الصراعات عند الحدود الشرقية، هي أولى أهداف نظام "الجولاني" ومن يقف خلفه لتبرير أعماله الانتقامية ضد اللبنانيين المقيمين عند حدود البلدين، حيث يُصر "المتفرجون الشامتون" على كتابة التاريخ بعين واحدة، حين وثّقوا على حد تعبيرهم "الاعتداءات السورية على لبنان بعد الاستقلال"، منها على سبيل المثال: دخول الجيش السوري الى قرية المجيدية في أوائل الخمسينات…اعتراض سوريين على سقاية أهالي عرسال لمواشيهم واستعمالهم السلاح لهذه الغاية …استيلاء الجيش السوري في العام ١٩٥٧ على أراضي آل داوود (لبنانيين) رغم أن القضاء السوري حكم بملكية آل داوود للأراضي…في المقابل أسقطوا من حساباتهم "الكيل بميزان واحد" للمقارنة بأرشيف آلاف الاعتداءات الاسرائيلية على الحدود اللبنانية منذ العام 1948.

كما أسقطوا من حساباتهم أيضاً أن أبناء الحدود الجنوبية والشرقية على حد سواء ما حملوا السلاح تاريخياً إلا بسبب غياب السلطة الشرعية وعجزها عن حمايتهم وحماية أرزاقهم، وإن لجأ بعضهم إلى أعمال التهريب غير الشرعية، فذلك بسبب الفقر والعوز في ظل غياب الاهتمام الرسمي لمعالجة أزماتهم الاجتماعية. والسؤال الأهم، أين هؤلاء اليوم من اعتداءات عصابات "الجولاني"؟ وأين كانوا عندما تقطعت سُبل الحياة بأهل البقاع؟ حين لم يجدوا سوى منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية تقف إلى جانبهم. ثم دخل السوريون وعملوا على استيعاب زعماء العشائر على نهج ودرب الرئيس الراحل فؤاد شهاب. ثم جاء الطائف مع وعود لهم بزراعات بديلة، لكن جميعها باءت بالفشل حتى أن الحكومة اللبنانية في العام 2001 أعدمت آخر إنتاج زراعي ذات مردود عليهم هو الشمندر السكري… واستمر الإهمال واستمرت الاتهامات وأما تهمتهم اليوم أنهم من بيئة "حزب الله". هي تهمة معلبة مسبقاً وجاهزة سلفاً لكل من تسول له نفسه الوقوف ضد مشروع "نيو سايكس- بيكو" ولو كان على حساب حياة الناس وأرزاقهم وكرامتهم. وإن كانت هذه المشهدية تعكس الواقع المرير لسكان الحدود الجنوبية والشرقية على حد سواء بالرغم من تجاوزها المئة عام، إنما جاءت لتؤكد أن ترسيم الحدود بين هذه الدول بات أمراً أكثر تعقيداً لا بل شبه مستحيل، إلا إذا فُرض فرضاً على اللبنانيين وبالقوة الأمريكية التي وضعت لبنان أمام مفترقين إما السلام أو التعديلات الحدودية …فهل دخل لبنان مخاض "جيوسياسي" جديد؟ وهل سيصبح دولة لبنان "الصغير" بدل الكبير؟

المصدر : جنوبيات