عربيات ودوليات >اخبار عربية
محاضِر مغشوشة عن آخر لقاء بين حافظ الأسد وكمال جنبلاط


د. ناصر زيدان
في أعقاب سقوط النظام السوري قبل ما يقارب ستَّة أشهر، انتشرت ظاهرة تسريب المعلومات، أو المحاضر عن موبقات شنيعة ارتكبها قادة النظام، وأجهزته الأمنية، ومنها عمليات قتل وإخفاء لكبار من قادة المنطقة وعلمائها والناشطين من أهل النضال والرأي. وبعد إلقاء القبض على منفذ عملية اغتيال المعلم كمال جنبلاط في مدينة "جبلة" الساحلية السورية بالتزامن مع مرور 48 عاماً على الجريمة؛ خرجت سرديات كثيرة وكمّ هائل من الأخبار والروايات، في بعضها شيء من الموضوعية، بينما يغلُب على بعضها الآخر الجانب الدعائي، أو التشويشي، أو بهدف تسجيل سبق صحفي يرغب في تحقيقه بعض المُبتدئين.
الإضاءة على الزوايا المُعتمة من التاريخ؛ حقٌ وواجب وتستحقُ التقدير، حتى ولو كانت العملية بحدِ ذاتها تحتوي على نكأ لجراح، لكن ذلك محموداً إذا كان على سبيل الإستفادة من عِبَر الماضي المُؤلمة ومن أجل المستقبل الأفضل. وترابط الإشهارات مع تطور الأحداث والوقائع، يقود إلى تساؤلات مشروعة حول بعض أهداف التسريبات أو غايات كشف المحاضر. ولبعض المحاضر روايات طويلة ومُملّة، وقد تكون "غبّ الطلب" أحياناً، وبمثابة الرد غير المباشر على وقائع مُثبتة، لكي تُحدِث بعض الخدوش على الصيغة النهائية الدامغة للمشهد.
حكاية كمال جنبلاط كزعيمٍ للحركة الوطنية اللبنانية، وكمفكرٍ من الطراز المُتميِّز مع حافظ الأسد كرئيسٍ انقلابيٍ للجمهورية العربية السورية في سبعينيات القرن الماضي؛ طويلة وشائكة وذات نهاية سوداوية، فالأول ساهم بعض الشيء في مقتل الثاني ونظامه معنوياً، وسلَّط الضوء على موبقاتهم التي لا تُعدُّ ولا تُحصى، حتى بعد استشهاده في 16 آذار (مارس) 1977، بينما الثاني قتل الأول جسدياً، لكنه ساهم من خلال هذه الجريمة بالإضاءة على مساحات واسعة من الأُفق الجنبلاطي الواسع، حيث السياسة مسلكٌ واحدٌ مٌتعرجٌ من بين مسالك أخرى مُتعدِدة ومُستقيمة للرجُل الاستثنائي.
بعض المحاضر المغشوشة التي لا يمكن تصديقها، لأنها تنتمي إلى مرحلة زمنية متوترة ليس فيها وقت لتسجيل المحاضر ولا حضور لمَن يسجلون (وبشهادة حاضرين للقاء الأخير بين حافظ الأسد وكمال جنبلاط في 27 آذار 1976)، وفي مكانٍ لا يُعيرُ اهتماماً للكتابة ولا "للكتاب" (كما كان يصف الرئيس الراحل فؤاد شهاب الدستور) ولا للمدونات، وهو ما قاله جنبلاط للأسد جهاراً في تلك الجلسة الشهيرة: "القادة العسكريون الذين يصلون بانقلابات؛ لا يُعيرون اهتماماً للدساتير وللأنظمة البرلمانية وللديمقراطية" (راجع كتاب هذه وصيتي للعام 1978 صفحة 102) بينما الحاضرين لجوانب الاجتماع – لاسيما الأستاذ توفيق سلطان نائب رئيس المجلس السياسي للحركة الوطنية آنذاك – لا يُشيرون إلى ما ذُكر، ويؤكدون وقائع أخرى جرت، مختلفة تماماً عما كُتب في أحد هذه المحاضر المغشوشة ( راجع كتاب د. عامر مشموشي، كمال جنبلاط اسرار ومواقف 2019، صفحة 116).
الأحداث التي حصلت في سوريا منذ 15 عام، وخصوصاً بعد سقوط نظام الأسدين في 8 كانون الأول 2024؛ كبيرة ومتشعِّبة، وأكلت نيرانها أخضر بعض الوقائع وتجاوزت بعض يابسها، لكن التاريخ أحياناً تصنعهُ لحظة، والخبايا الكبيرة تكشفها شعلةُ السراج الصغيرة. لقد مَنَعَ كمال جنبلاط بموقفه المُتشدِّد قبل 50 عاماً تنفيذ الكونفيدرالية المزعومة لدول "سوريا الكبرى" والتي كانت ستطبَّق تحت شعارٍ انساني يهدف الى "انقاذ المسيحيين" وبغلافٍ ومضمون ديكتاتوري مُستبدّ، ورفض الدخول في السجن الكبير كما كان يصِفه (راجع كتاب هذه وصيتي ص 99) وهو الموضوع الذي استحوذ على غالبية وقت الاجتماع الشهير بين الرجلين، خصوصاً بعد أن أبرز الأسد لكمال جنبلاط وثيقة موقعة من قبل قادة الكتائب والأحرار في حينها، توافق على إقامة الاتحاد الكونفيدرالي بين لبنان وسوريا (أو ضمّ لبنان إلى سوريا) وتنتهي بموجب اعلان هذا الاتحاد الحرب الدائرة في لبنان، بينما أصرَّ كمال جنبلاط – وربما بعنادٍ مبالغ فيه – على متابعة العمليات العسكرية، لأن مشروع " الكتائب والشمعونيين" كما قال حرفياً أصبح قاب قوسين أو أدنى من السقوط، مكرراً نداءه للأسد " لا تحرم لبنان من عملية تطور ديمقراطي ينتج نظاماً مدنياً فيه عدالة ومساواة" ولكن يبدو أن الأسد كان يخاف من كلمة "الديمقراطية" أكثر من غيره، خصوصاً منهم اللبنانيين.
المبالغة في توليف سرديات غريبة عجيبة، تركز على أن كمال جنبلاط كان يتطلع إلى هزيمة المسيحيين، وأن الأسد كان يريد حمايتهم؛ فيه شيء من الجنوح الثقافي المُرتجل، ودعائية مشكوك بصدقيتها، ذلك أن جنبلاط كان انسانياً قبل كل شيء، وكان مُتهماً بالترويج للأفكار الروحانية، لا سيما منها اليسوعية المٌتسامحة، وهو مُتأثراً الى حدود بعيدة "بيسوع الناصري" كما كان يحلو له تسميته، وأفكاره الاشتراكية استندت بجزء منها إلى الراهب المُتنور تيارد دي شاردان، ولمعرفة المزيد عن هذا الموضوع يمكن الاطلاع على كتاب (ميخائيل نعيمة وكمال جنبلاط شاعران في معراج الصوفية، لنتالي خوري الغريب، دار سائر المشرق، 2014) لكن الصراع في ذلك الوقت كان بين مشروعين سياسيين مختلفين لا أكثر ولا أقل، وساهم الوجود الفلسطيني المسلح في تأجيج هذا الصراع. ولكلا المشروعين مُبررات تفهمها جمهور كُل من الفريقين المُتخاصمين، ولا نريد العودة إلى تفاصيل تلك المرحلة المُؤلمة، ولا لأيلول الأسود في العام 1971 الذي ساهم في تأجيج التوتر في لبنان لاحقاً، ولا لمقولة "حروب الآخرين على أرضنا" المُختلف عليها.
ليس من اختصاصنا تقييم مرحلة حكم حافظ الأسد، فالشعب السوري قال كلمته، وكذلك مَن دفعوا الثمن من جراء جنوحه الرهيب – لا سيما مسيحيي لبنان – وكمال جنبلاط قيل فيه الكثير؛ عن دوره السياسي، وعن فلسفته الروحانية الفريدة، وعن عِناده الثقافي والفكري. وفي هذه اللحظة العاطفية التي تترافق مع تطورات ساخنة، وبعد القاء القبض على منفِّذ الجريمة، وسقوط نظام القاتل؛ لا يمكن اطلاق توصيفات قد تحمُل محاباة من جهة، او تجنٍ من جهة ثانية، لكن السكوت عن مطالعات فيها عناوين كبيرة ومضامين ليست دقيقة؛ قد يُعتبر كسلاً غير محمود عند مَن يعرفون بعض خصائص تلك المرحلة من تاريخ لبنان، والساكت عن الحقّ شيطانٌ أخرس. والسلام.