بأقلامهم >بأقلامهم
الاحتلال الإسرائيلي يحرق مساحات حرجية جنوب لبنان لأهداف عسكرية
جنوبيات
شكل موضوع الحرائق التي تشعلها القوات الإسرائيلية جراء قصفها بالفوسفور الأبيض والقذائف الحارقة الأحراج والبساتين الواقعة في بلدات الجنوب اللبناني منذ بدء الحرب في الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 رد فعل رسمياً وشعبياً في لبنان مستنكراً هذا القصف الذي أتى حتى اليوم على مساحات واسعة من ثروة لبنان الجنوبي الخضراء واتهمت إسرائيل بأنها تتقصد حرق هذه الأحراج والغابات لغايات عسكرية منها إنشاء منطقة عازلة ومحروقة قرب الحدود.
وبحسب تقارير الحكومة اللبنانية (حكومة تصريف الأعمال) التي أعلنت على لسان رئيسها نجيب ميقاتي فإن الغارات الجوية الإسرائيلية حولت جنوب لبنان إلى منطقة منكوبة زراعياً، وأن إسرائيل دمرت مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية وقضت على نحو 34 ألف رأس ماشية، مما يؤكد أن خسائر لبنان الزراعية كبيرة وضخمة وتحتاج إلى سنوات طويلة ومبالغ طائلة لإعادة تعويضها أو ترميمها.
واتهمت التقارير اللبنانية الصادرة من أكثر من وزارة معنية كوزارتي البيئة والزراعة إسرائيل بتعمدها حرق المزروعات وقتل السكان المقيمين من خلال استخدامها قذائف الفوسفور الأبيض المحرمة دولياً أثناء قصف البلدات الحدودية ومحيطها، وهذا ما دفع لبنان إلى تقديم شكوى ضد إسرائيل في مجلس الأمن الدولي "لاستخدامها الفوسفور الأبيض في اعتداءاتها ضد لبنان" في آخر أكتوبر 2023.
وأشار تقرير صادر من وزارة الزراعة اللبنانية تحت عنوان "إحصاءات حول الاعتداءات بالفوسفور الأبيض المحرم دولياً التي افتعلها العدو الإسرائيلي على الأراضي اللبنانية، والتي أدت إلى نشوب حرائق منذ الثامن من أكتوبر 2023 وحتى 22 أبريل (نيسان) 2024" إلى أن عدد الحرائق "الناتجة من الاستهداف بالفوسفور الأبيض (حرائق كبيرة وصغيرة) بلغ 737 حريقاً واستهدافاً، ومنها 96 حريقاً في الـ26 من أكتوبر 2023". وأشار التقرير كذلك إلى "أن القصف والحرائق طاولا 55 بلدة في محافظتي النبطية والجنوب، وأن مساحة الأراضي المحروقة بالكامل بلغت أكثر من 2200 دونم (نحو2.2 كيلومتر مربع)، وأدى إلى فقدان نحو 60 ألف شجرة زيتون ومساحات واسعة من السنديان والصنوبر والملول والغار (الحرجية) وغيرها".
تقرير "معاريف"
من الجهة المقابلة نشرت صحيفة "معاريف" الإسرائيلية تقريراً جديداً قالت فيه "إن الجيش الإسرائيلي يعمل على إشعال النيران في مناطق لبنانية بهدف كشف عنها، بالتالي اكتشاف أسرار قوة ’حزب الله‘ والبنى التحتية الخاصة به، بما في ذلك الأنفاق والكهوف". ويفيد التقرير بأنه "أحرق حتى الآن آلاف الدونمات في لبنان معظمها في القطاع الغربي، وأن الحرائق على جانبي الحدود في لبنان وإسرائيل أسهمت في تغيير المشهد بالفعل". ويضيف التقرير "حرق العشرات، وربما حتى المئات والآلاف من الدونمات في الشهر الماضي في الجليل وهضبة الجولان. وتحولت الحقول الخضراء والصفراء إلى اللون الأسود. مع هذا فإن ’حزب الله‘ يطلق صواريخ تسبب حرائق تحت ظل الطقس الحار والرطوبة العالية".
وبحسب مسؤولي الإطفاء في إسرائيل فقد شهد مايو (أيار) الماضي وحده ما لا يقل عن 168 حريقاً نتيجة نيران صواريخ "حزب الله" أو الصواريخ الاعتراضية الإسرائيلية. كذلك كان عدد لا بأس به من الحرائق عبارة عن حرائق ضخمة تماماً مثل تلك التي اندلعت في مرتفعات الجولان.
حرائق متقصدة
ورد العميد الركن المتقاعد في الجيش اللبناني والمتخصص في الشأن الاستراتيجي محمد عباس على سؤال عما إذا كانت ثمة استراتيجية عسكرية إسرائيلية من وراء استهداف الأحراج والغابات على المناطق الحدودية اللبنانية؟ وقال "بالتأكيد، وهذا ليس من اليوم، عندما سقط الرقيب الشهيد عبدالله طفيلي في الجيش اللبناني والرقيب الشهيد روبير العشي في حادثة العديسة (جنوب) بتاريخ الثالث من أغسطس (آب) 2010، كان بسبب إصرار إسرائيل على إزالة الأشجار قرب الحدود. ودائماً عندما تكون الحقول غنية بالعشب والغطاء النباتي مرتفعاً يحرقونها عن قصد، وكنا نلاحظ أنه عندما يتجول الجنود الإسرائيليون على الطرقات قرب الحدود في خلال الدوريات، كانوا يرمون مواد مشتعلة على الأعشاب القريبة من الحدود اللبنانية بقصد حرقها وإحداث رؤية كاملة". وأضاف العميد عباس "ما يجري أخيراً من إشعال متقصد للحرائق يدخل في إطار قلق الإسرائيليين من تسلل عناصر حزب الله إلى الجليل، وقد تحدث عديد من المسؤولين الإسرائيليين سواء من قادة سابقين في الجيش أو في الاستخبارات الإسرائيلية عن هذا الاحتمال، خصوصاً بعدما فقد الإسرائيليون تحصيناتهم المتقدمة قرب الحدود اللبنانية تحت ضربات الحزب وتدميره التجهيزات التجسسية وأجهزة المراقبة والرصد والأجهزة الكهربصرية، بعد تكرار استهدافها في الأسابيع الأولى لبدء المعارك والاشتباكات واعترف الإسرائيليون أن قواتهم على الحد الأمامي أصيبت بإعماء كبير وهم يستعيضون اليوم عن هذا الأمر باستخدام المسيرات وصور الأقمار الاصطناعية، لكنها لا تعطيهم الفاعلية عينها التي كانت تعطيه المراكز التجسسية التي كانت قائمة على أكثر من 20 عموداً وكانت تنقل الصور المباشرة للقوات الموجودة على الحد الأمامي وكانت موصولة بأسلحة رشاشة تطلق النيران تلقائياً لحظة الاشتباه في أي تحرك قرب الحدود".
حرائق لمنع التسلل
ولفت العميد عباس إلى أن "الإسرائيليين استعاضوا عن المواقع الأمامية بمواقع جديدة عند السفح المقابل، وهي غير مرئية بالعين المجردة منعاً لاستهدافها بالصواريخ المضادة للدروع التي تطلق من الحدود اللبنانية". وتابع "أنا متأكد بصورة جازمة أن الإسرائيليين لن يتركوا كل الأغطية النباتية وغير النباتية الصالحة للتسلل، خصوصاً أن التضاريس اللبنانية معقدة ووعرة من الناقورة وحتى شبعا، لذلك فهم يحرقونها وسيشعلون مزيداً من الحرائق في الأماكن الصالحة للتسلل، خصوصاً في الأودية، لذلك يغتنم الإسرائيليون العمليات العسكرية القائمة منذ 8 أشهر ويطلقون قذائفهم الحارقة والفوسفورية، وهي الأخطر التي تترك آثارها على التربة والزراعة إلى أمد بعيد، وهي سامة ومحرمة دولياً، بغية إحداث رؤية كاملة تمنع التسلل". ورجح أن "القصف المدفعي الذي تتعرض له عشرات البلدات الجنوبية يومياً بالقذائف الحارقة والفوسفورية سيزداد، خصوصاً بعدما باتت الحقول بوضع يباس كامل، وأصبحنا في ما يسمى موسم الحرائق، وهو قادر على فعل ذلك. وفي المقابل فإن ’حزب الله‘ أضحى قادراً هو الآخر على فعل هذا الأمر، خصوصاً أنه يمتلك قذائف مدفعية حارقة تستخدم عادة في الحروب لإشعال أهداف معينة وبتنا نرى أخيراً الحرائق التي تشتعل في الجهة المقابلة من الحدود اللبنانية".
وأكد عباس أن "الحرائق التي يفتعلها الإسرائيليون في الجهة اللبنانية غايتها توضيح الرؤية وكشف حركة المسلحين على الحد الأمامي ومنع التسلل، خصوصاً في المناطق التي تصلح لعمليات من هذا النوع، في المناطق الكثيفة والممرات المغطاة ونحن نشاهد عبر وسائل الإعلام كيف أن ’حزب الله‘ يطلق صواريخه من الحد الأمامي وفي عملية رامية (جنوب) التي حصلت منذ نحو أسبوعين وصل عناصر الحزب إلى مسافة صفر من الحدود واستعملوا أسلحة قريبة المدى وقذائف لا يتجاوز مداها 200 متر، لذلك لن يترك الإسرائيليون أشجاراً كثيفة في الجهة المقابلة لمواقعهم التي تحجب الرؤية عن قواتهم المتقدمة وتتيح عمليات التسلل".
إبادة بيئية
ورأى رئيس جمعية "الجنوبيون الخضر" المتخصص في الشأن البيئي هشام يونس "أن هذا الاستخدام المكثف من قبل الإسرائيليين لقذائف الفوسفور الأبيض المحرمة دولياً ضد الأراضي الزراعية والأحراج والغابات يعني أن هناك هدفاً كان ولا يزال لدى العدو، وهو تحويل المنطقة إلى منطقة منكوبة بيئياً وتحقيق ما يسمى حال إبادة بيئية، وهذه الحال توصف بالاختلال الذي يتعرض له عنصر من العناصر البيئية وأكثر. إن ما شاهدناه من خلال الاستخدام المكثف ضد الغابات والأحراج والآثار البعيدة للفوسفور الأبيض من تلويث التربة ومجاري المياه، فضلاً عن حرق الغابات والأحراج والنباتات يؤكد أن هناك هدفاً ضمن خطة واضحة سبق أن اعتمدها الإسرائيليون بما يعرف بسياسة الأرض المحروقة، وأن ما يفعله اليوم يرتقي إلى إبادة بيئية".
ونفى يونس وجود إحصائية نهائية لأضرار الحرائق والمزروعات، و"نحن كجمعية لا تقديرات دقيقة عندنا لغاية الآن، إنما نشتغل على برنامج لتحديد شيء تقريبي، وهذا يعتمد على منهجية تقوم بالضرورة على الفحص الميداني، ومع استخدام الفوسفور الأبيض الموضوع لن يكون عينياً وموضعياً لأن أثر الفوسفور أوسع، إذ إن القذيفة تنشر نحو 120 شظية حارقة على مساحة قد تتعدى 250 متراً، ويمكن للأماكن التي تصيبها بصورة مباشرة أن تنقل إليها الدخان الذي هو عبارة عن تفاعل كيماوي يلحق التلوث بمكان سقوطه أو استقراره".
الأضرار كبيرة جداً
وحول المساحات التي أصيبت بصورة مباشرة ولاحظتها الأرقام التي صدرت عن وزارة الزراعة اللبنانية أكد يونس "طلبنا الاطلاع على التقرير الشامل كي تكون لدينا إحاطة أفضل في الكيفية المنهجية التي اعتمدتها الوزارة للوصول إلى هذه التقديرات التي صدرت في الـ22 من أبريل الماضي، ويتبين أن المساحة المتضررة بصورة مباشرة وغير مباشرة كبيرة جداً، وهي أصابت بصورة رئيسة غابات السنديان وأنواعاً من الصنوبر والملول والغار وغيرها من نباتات أخرى، إضافة إلى الأضرار الفادحة ببساتين الزيتون والأشجار المثمرة، لكن موضوع تلوث التربة بالفوسفور حساس جداً لأنه يشمل مجاري الأنهار والأمطار والسيول التي حملت في موسم الشتاء التلوث إلى أمكنة ومسافات بعيدة، كل ذلك في حاجة إلى أخذ مئات العينات إن لم نقل آلاف العينات من جميع المناطق التي تعرضت للفوسفور الأبيض والمحاذية لها كي نقدر حجم الأضرار بصورة دقيقة".
الحرائق مستمرة
ولفت يونس إلى "أن الثروة الحرجية الحدودية كانت مستهدفة بصورة كبيرة ورئيسة من قبل الإسرائيليين، ولا تزال حتى اليوم، إذ نسمع كل يوم بالحرائق التي تندلع نتيجة استخدام الفوسفور الأبيض بصورة مكثفة وبذخائر أخرى وبالغارات والقصف المدفعي والقنابل المضيئة. نعم هناك غاية إسرائيلية في تدمير هذه الأحراج، وقد تحقق قسم منها، في الحد الأدنى بالحرائق التي اشتعلت والتدمير الذي لحق بقسم كبير منها".
وعن وقت سيحتاج إليه لبنان كي يقدر حجم خسارته الحرجية، ومن ثم التعويض، قال المتخصص البيئي يونس "الوقت يعتمد على المنهجية التي ستعتمد في إحصاء الأضرار وكيفية معالجتها، يجب أن تكون منهجية علمية وضمن خطة مبرمجة على مراحل واحدة منها المسح الميداني وتصنيف المناطق وفقاً لدرجة التلوث ونسبة حجم الأضرار وطبيعة الحرائق، وهذا يتطلب أخذ آلاف العينات لأن الأمر قد يختلف بالأمتار أحياناً في الموقع نفسه". وختم مشدداً على أنه "كلما كانت مرحلة الجمع والتحليل واستخلاص التقييم الفعلي للمستويات والأضرار دقيقة وعلمية سليمة كانت المرحلة الثالثة التي هي المعالجة وإعادة التأهيل سليمة وناجحة، ويمكن أن تقلل من الفترة الزمنية التي يتطلبها الأمر، وهذا منوط بالمنهجية التي ستعتمدها الحكومة اللبنانية والوزارات صاحبة الصلاحية".
الفوسفور الأبيض
وفي المنطق العسكري الميداني يمكن استخدام الفوسفور الأبيض كأداة عسكرية لحجب الرؤية أو وضع علامة أو إرسال إشارة أو كسلاح لتشتيت قوات العدو، لكن المخاوف بدأت تتفاقم في شأن استخدامه في المناطق اللبنانية المأهولة بالسكان، وقد ظهرت صور وفيديوهات عدة لقذائف الفوسفور الأبيض المنفجرة في الهواء، والتي تنشر 116 جزءاً محترقاً مشرباً بالمادة على مساحة يراوح قطرها ما بين 125 و250 متراً، اعتماداً على الارتفاع والمسافة وزاوية الانفجار، مما يعرض عدداً أكبر من المدنيين والمنشآت المدنية لأضرار محتملة مقارنة بالانفجار الأرضي الموضعي.
ويشتعل الفوسفور الأبيض عند تعرضه لأوكسجين الغلاف الجوي ويستمر في الاحتراق حتى حرمانه من الأوكسجين أو استنفاده، ويمكن أن يؤدي تفاعله الكيماوي إلى توليد حرارة شديدة (نحو 815 درجة مئوية) وضوء ودخان. ويمكن أن يحترق الفوسفور الأبيض الذي يلامس الأشخاص حتى العظام، كما يمكن لشظايا الفوسفور الأبيض أن تؤدي إلى تفاقم الجروح حتى بعد العلاج، ويمكن أن تدخل إلى مجرى الدم وتتسبب في فشل عديد من الأعضاء، ويمكن أيضاً أن تشتعل الجروح التي سبق تضميدها عند إزالة الضمادات وإعادة تعريض الجروح للأوكسجين.
تقرير "هيومن رايتس ووتش"
وقالت "هيومن رايتس ووتش" أخيراً "إن استخدام الفوسفور الأبيض من قبل إسرائيل على نطاق واسع في جنوب لبنان يعرض المدنيين لخطر جسيم ويسهم في تهجير المدنيين". وقد تحققت من استخدام القوات الإسرائيلية ذخائر الفوسفور الأبيض في 17 بلدة في الأقل بجنوب لبنان منذ أكتوبر 2023، "خمس منها استخدمت فيها الذخائر المتفجرة جواً بصورة غير قانونية فوق مناطق سكنية مأهولة".