بأقلامهم >بأقلامهم
فوزي داغر... القاضي الرّصين



جنوبيات
في زمنٍ يعاني فيه القضاء من تعثّرات متكرّرة وهزّات عميقة، يبرز من بين الصّفوف قاضٍ لبناني شكّل بمسيرته مثالًا نادرًا على النّزاهة والحكمة والرّصانة القضائيّة. إنه القاضي فوزي داغر، الذي ارتقى إلى أعلى مراتب السّلطة القضائيّة، لا على أكتاف النّفوذ أو الاستزلام، بل على قاعدة الجدارة، والاستقامة، والثّقة المتراكمة.
مسيرة قضائية مضيئة:
بدأت بصمات القاضي داغر تترسّخ في وجدان العدالة اللبنانيّة حين عُيِّن مفوضًا للحكومة لدى المحكمة العسكريّة، في موقع يُعدّ من أكثر المواقع تعقيدًا وحساسيّة، حيث تتقاطع القضايا الأمنيّة بالسياسيّة، وتتشابك الاعتبارات الوطنيّة بالقانونيّة. فكان في هذا الموقع على قدر التّحدي، حازمًا من دون تشفٍ، وحكيمًا من دون تهاون، لا يُلاحق إلا حين تكتمل أركان الشّبهات، ولا يضع توقيعه إلا حيث يطمئن ضميره.
وانتقل بعدها إلى موقع قاضي التّحقيق الأوّل في جبل لبنان، أحد أكبر المرافق القضائيّة في البلاد من حيث كثافة الملفّات وتشعّبها، فحمل عبء الملفّات الكبرى بكل أمانة ومسؤوليّة، وكرّس مفاهيم التّحقيق النّزيه، واحترام حقوق الدّفاع، وموازنة مصلحة المجتمع مع ضمانات الأفراد.
ثم اختُتم مساره القضائي الرّفيع بمنصب المفتّش العام لدى هيئة التّفتيش القضائيّ، حيث تولّى مهمة دقيقة:
مراقبة الجسم القضائي من داخله، ومساءلة القضاة عند اللزوم، دفاعًا عن سمعة العدالة وصونًا للثقة العامّة.
وهنا، برزت صفاته القياديّة واستقلاليّته في اتّخاذ المواقف، مؤكدًا أن القضاء يُنقَّى من الدّاخل لا يُهدم من الخارج.
رصانة الموقف ونزاهة الأداء:
تميّز القاضي فوزي داغر بقدرته على الجمع بين الهيبة القضائيّة والهدوء الشّخصي، بين تطبيق النّص وبين إدراك روحه.
لم يعرف التّسرّع في قراراته، ولا الانفعال في أحكامه، بل عرف عنه أنه يقيس كلماته بميزان العقل، ويكتب قراراته بحبر التّجرد والاتزان.
لقد نأى بنفسه عن الضّجيج الإعلاميّ، كما عن الاستقطابات السّياسيّة، وبقي وفيًا لقَسَمه القضائيّ، لا يلين أمام الضّغوط، ولا يتأثّر بالرّياح التي كثيرًا ما تعصف بالقضاة في بلد تُستغل فيه السّياسة كل مفصل.
شخصيّة قضائيّة استثنائيّة:
عرفه من عايشه في القضاء، ومن راجعه من محامين، بأنه صاحب كفّ نظيف، وصوت هادئ، ونظرة نافذة. لم يكن في سلوكه ما يوحي بالاستعلاء، بل بالتّواضع المقرون بالصّلابة. ولم يكن في منطقه ما يدعو إلى التّشنج، بل إلى الاقتناع العميق بأن العدالة هي واجب مقدّس لا وظيفة إداريّة.
وفي مسيرته، قدّم مثالًا على أن القاضي الحقيقيّ هو ذاك الذي يحكم باسمه وباسم القانون، لا باسم الانتماءات أو الاصطفافات.
صفوة القول:
وحين يكون القضاء ضمير الوطن...
فإن القاضي فوزي داغر لا يُعدّ مجرّد موظّف قضائيّ رفيع، بل نموذجًا للضمير الحيّ في جسد العدالة اللبنانيّة، ذاك الضّمير الذي لا يُباع ولا يُشترى، ولا يُغيّره موقع أو ظرف.
ترك في كل منصب تبوّأه أثرًا أبيض السّريرة، وسيرة يليق بها أن تُروى كدرس في النّزاهة القضائيّة، والرّشد القانونيّ، والهيبة التي لا تصرخ بل تُحترم.
فهو، بحق، القاضي الرصين...
الذي آمن بأنّ العدالة لا تكون صلبة إلّا حين تكون حازمة، ولا تكون حازمة إلّا حين يكون القاضي ضميرًا حيًّا لا سيفًا مصلتًا.