مقالات هيثم زعيتر >مقالات هيثم زعيتر
بيان عجاج نويهض.. رفيقة الحرف وسيدة الكلمة وحارسة الذاكرة



جنوبيات
في وداع الدكتورة بيان عجاج نويهض الحوت، لا يُرثى اسمٌ عابر، بل يغيب وجهٌ من وجوه الوعي الفلسطيني، شكّل جزءاً من السردية الفلسطينية في مُقاومتها الطويلة ضد التهميش والنسيان، وتغيب شاهدةٌ صادقة على زمن النكبة والثورة والكلمة المُقاومة.
فقد رحلت في بيروت الأديبة المُناضلة الدكتورة بيان، التي جمعت في سيرتها النادرة بين النسب الفكري العريق، والشراكة النضالية، والالتزام الأدبي، والإيمان الذي لم يضعف يوماً بأن فلسطين ستعود، وأن الكلمة باقية ما بقي الحنين والحق والذاكرة.
في رحيلها، لا تُرثى فقط أديبة ومُفكرة، بل تُفتقد شاهدة صادقة على زمن النكبة والثورة والفكر، وامرأةٌ جمعت في مسيرتها النادرة بين النسب الفكري العريق، والشراكة النضالية، والالتزام الأدبي العميق، والإيمان الذي لم يتزعزع يوماً بأن فلسطين ستعود، وأن الكلمة مُقاومة، والذاكرة حصنُ الهوية.
ولدت بيان في بيتٍ لا يُشبه إلا نفسه، فوالدها هو المُؤرخ القومي العربي البارز عجاج نويهض، أحد حماة التراث الفكري والنهضوي العربي، ووالدتها هي الأديبة جمال سليم، التي نهلت منها أصول البيان واللغة.
نشأت على وعي مُبكر بالهوية والحرية والقضية، فكانت فلسطين تسكن البيت، وتسري في الدم، وتترجم بالحبر.
وقد شاءت لها الحياة أن تكون شريكة المُناضل شفيق الحوت، عضو اللجنة التنفيذية السابق لـ"مُنظمة التحرير الفلسطينية"، وأول مُمثل لها في لبنان، وواحد من أكثر الأصوات صلابة ورفضاً لمشاريع التصفية والتفريط.
غير أنّ بيان لم تكن ظلّ أحد، بل كانت مُناضلة بفكرها، مُتقدّمة بحضورها، ثابتة بمواقفها.
لم ترَ في النضال مُهمةً عسكرية فقط، بل مشروعاً ثقافياً ووطنياً وإنسانياً مُتكاملاً.
كانت من أوائل من أدركوا أن المعركة على فلسطين هي معركة رواية وذاكرة ووعي، وأن القلم لا يقلّ شأناً عن البندقية، بل يتقدّمها أحياناً حين تُخذل الساحات أو تُغلق الحدود.
مارست التعليم في المدارس والجامعات، وأسهمت في إعداد أجيال من الشباب الفلسطيني والعربي، على الإيمان بالقضية، والتزام الكلمة، ومُقاومة النسيان.
أسهمت بكتاباتها ومقالاتها في الصحف والمجلات، والمُؤلفات والإذاعة، ومُشاركتها في مُؤتمرات وندوات فكرية وثقافية داخل لبنان وخارجه، في صياغة خطاب وطنيّ صلب، مُتجذّر في عدالة القضية، ومُنفتح على القيم الإنسانية، فواجهت زيف الرواية الصهيونية، ودافعت عن حق العودة باعتباره جوهر القضية، لا مُجرد مطلب سياسي.
كتبت وأرّخت ودرّست، ولم تتراجع يوماً عن مشروعها الثقافي في تحصين الوعي، وتجذير الانتماء، وتوثيق السردية الوطنية.
تفرغت للعمل البحثيّ وعلى أرشيفات الذاكرة الوطنية، وتوثّق الروايات الأصيلة، من أبرزها إعدادها ونشرها أوراق المُناضل أكرم زعيتر التي صدرت في العام 1979، وشكّلت مرجعاً سياسياً وتاريخياً في توثيق مفاصل دقيقة من النضال الوطني والقومي.
كان لها دور فعّال في تعزيز مكانة المرأة الفلسطينية والعربية في المشهد الثقافي والسياسي، فمزجت بين الحضور النخبوي والتأثير الشعبي.
أنشأت مع شفيق الحوت أسرةً لا تعرف الحياد في معركة الوعي، رَبّيا أبناءهم: المُهندس هادر، والدكتورة حنين والدكتورة سيرين الحوت، على الإيمان بأن النكبة ليست حدثاً عابراً، بل جرحٌ مفتوح، لا يُشفى إلا بالعدالة والعودة، وأن النضال لا يُختزل في مجالٍ واحد فقط، بل في الموقف والتربية والعقل والكرامة.
كانت القدس ويافا وفلسطين، يسكنون بيان، كما تسكن القصيدة، ولم يغيبوا عن قلبها وعقلها لحظة، بل بقيت تراهم أقرب من الروح، وتحلم أن تُدفن في فلسطين، لكنّها كانت تقول: "إن كل أرضٍ تحتضن مُناضلاً، تصبح قطعةً من فلسطين".
وظلّت حتى أنفاسها الأخيرة مُؤمنة بأن النكبة ليست نهاية، بل بداية صراع لا يُحسم إلا بالعودة.
شُيّعت الدكتورة بيان نويهض الحوت، يوم الأحد في 13 تموز/يوليو 2025، بعد الصلاة على جثمانها في "مسجد الخاشقجي" - بيروت، إلى مقبرة شهداء الثورة الفلسطينية - دوار شاتيلا، لتجاور من سبقوها من رموز وهبوا العمر لقضيتهم، وكانت هي واحدة منهم في الفعل والكلمة والموقف.
في تلك المقبرة، التي ليست مُجرد مساحة ترابية، بل مرقد الرموز، وأرشيف الثورة، وسجلّ شرف للشهداء، وُوريت الثرى مُناضلة بالكلمة، أديبة بالموقف، أمينة على الرواية، وراعية لذاكرة ما زالت تحرس الحلم.
برحيلها، تخسر فلسطين إحدى حارسات ذاكرتها الثقافية، لكنّها تُخلّف إرثاً أدبياً وأخلاقياً، يُثبت أن الكلمة في خدمة القضية ليست ترفاً نخبوياً، بل واجباً أخلاقياً، ومُقاومة يومية، وأن المُثقف المُلتزم لا يختار زمنه، بل يُجيد الانتماء في كل زمان.
رحم الله الدكتورة بيان عجاج نويهض الحوت، وجعل ذكراها حية في سجلّ من لم يبدلوا تبديلاً، وسلمت الأمانة لكلّ من يُؤمن بأن النضال لا يُورّث إلا بصدق، ولا يُكتَب إلا بنور.