بأقلامهم >بأقلامهم
الحكومة المستقيلة في لبنان بين مطرقة الحكّام وسندان الدستور
السفير د. جان معكرون
بعد أن اختلفت وتباينت الآراء حول انعقاد الحكومة المستقيلة لإقرار مشروع مرسوم تعديل المرسوم 6433 المتعلّق بالحدود البحرية اللبنانية، رأينا من المناسب أن نعالج الموضوعين التاليين:
من يدعو الحكومة إلى الانعقاد عند ممارستها صلاحياتها بشكلٍ عادي.
إمكانية دعوة الحكومة المستقيلة إلى الانعقاد لإقرار مشروع مرسوم تعديل المرسوم 6433.
نصّت المادة 64 بند 6 على أنّ رئيس مجلس الوزراء «يدعو مجلس الوزراء إلى الانعقاد ويضع جدول أعماله. ويطلع رئيس الجمهورية مسبقاً على المواضيع التي يتضمّنها وعلى المواضيع الطارئة التي ستُبحث».
لا شكّ أنّ هذه المادة واضحة لجهة احتكار رئيس الحكومة وحده صلاحية دعوة مجلس الوزراء إلى الانعقاد وذلك في الأحوال العادية.
من جهة أخرى، أعطت المادة 53 بند 12 لرئيس الجمهورية صلاحية أن «يدعو مجلس الوزراء استثنائياً كلما رأى ذلك ضرورياً بالاتفاق مع رئيس الحكومة».
الواضح لدينا أنّ الدستور قد أعطى في المادة 53 بند 12 لرئيس الجمهورية صلاحية دعوة مجلس الوزراء إلى الانعقاد، لكنّه اشترطها بتوافر عاملين، الأول توافر عنصر الضرورة والثاني هو الاتفاق مع رئيس الحكومة. لكنّ المشكلة تكمن في مدى موافقة رئيس الحكومة على عقد الجلسة وهو صاحب الحق الطبيعي في هذه الدعوة وفقاً للمادة 64.
إنّ المادة 53 خلقت التباساً كبيراً لأنها طرحت إشكالاً من الصعب حلّه وهو تفسير عبارة «بالاتفاق مع رئيس الحكومة» في حال رفضهِ تلبية دعوة رئيس الجمهورية.
وتعليقاً على المادة 53، يمكن القول أنه من المحتمل أن يكون النواب المشاركون في وضع الدستور اللبناني في الطائف قد تأثروا بالمادة 16 من الدستور الفرنسي التي نصّت على أنه «إذا تعرّضت مؤسسات الجمهورية أو استقلال الأمّة أو وحدة أراضيها أو تنفيذها لالتزاماتها الدولية لخطرٍ داهم وجسيم، وفي حال توقفت السلطات الدستورية العامة عن سير عملها المنتظم، يتّخذ رئيس الجمهورية التدابير التي تقتضيها هذه الظروف بعد استشارته الرسمية رئيس الوزراء ورئيسَي مجلس البرلمان والمجلس الدستوري».
ونعتقد أنّ المادة 53 بند 12 من الدستور اللبناني تحاكي في روحيتها المادة 16 المذكورة من الدستور الفرنسي لأنها منحت الرئيس اللبناني حق دعوة مجلس الوزراء إلى الانعقاد استثنائياً كلما رأى ذلك ضرورياً. إنّ عنصر الضرورة يعني في هذا السياق وجود خطر داهم أو ضرورة اتخاذ موقف وطني حاسم أو توقّف سير عمل السلطات الدستورية في ظروفٍ وطنية مصيرية...
إضافةً إلى اقتناع رئيس الجمهورية بتوافر عنصر الضرورة، نصّت المادة 53 على أن تتمّ الدعوة بالاتفاق مع رئيس الحكومة.
والسؤال الواجب طرحه هنا، هو كيف يمكن حلّ هذا الإشكال في حال لم يتّفق رئيس الحكومة مع رئيس الجمهورية من أجل عقد جلسة استثنائية لمجلس الوزراء.
نستطيع القول أنّ الدستور اللبناني لم يفترض في المطلق حالة عدم وجود تفاهم أو كيمياء بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة أو لم يخطر في بال واضعي الدستور إمكانية وجود خلاف جوهري بين الإثنين. بل افترض كغيره من دساتير الدول وجود حسن نيّة Bona Fide بين القيّمين على الحكم وأيضاً تعاونهم من أجل تأمين حسن سير عمل المؤسسات الدستورية خاصةً أنّ الرئيسين مؤتمنان دستورياً على أسمى المبادئ الدستورية والوطنية. فالمادة 49 نصّت على أنّ «رئيس الجمهورية هو رمز وحدة الوطن والذي أدّى حلف اليمين بأن يحترم دستور الأمّة اللبنانية وقوانينها واستقلال الوطن وسلامة أراضيه.
أمّا رئيس الحكومة فهو بموجب المادة 64 يمثّل الحكومة ويتكلم باسمها ويُعتبر مسؤولاً عن تنفيذ السياسة العامّة.
وسنداً لهاتين المادتين، فإنه يترتّب على الحكّام أن يحترموا الدستور والقوانين والتي تهدف أوّلاً إلى تحقيق مصالح المواطنين وحقوقهم وتأمين سلامتهم ورفاهيتهم.
هكذا تكلّم السياسي الفرنسي المعروف Portalis حين قال أنّ غاية القوانين تأمين حياة أفضل للناس
«L’objet de la loi est de rendre les hommes meilleurs».
ونجد من المفيد في هذا الإطار الإشارة إلى الحادثة التاريخية الشهيرة والتي أبانت عن المناقبية العالية التي تمتّع بها الرئيس الفرنسي Poincaré ورجل الدولة Clemenceau.
فالرجلان مختلفان في الطباع ويكره أحدهما الآخر، لكن ما جمعَ بينهما هو حبّ الوطن. ففي العام 1917 وخلال الحرب العالمية الأولى وفي ظلّ الخطر الالماني الداهم، استدعى الرئيس بوانكاريه كليمنصو وتعالى الإثنان عن أنانيّتهما وتخطّيا الحقد المتنامي في قلبهما واجتمعا وألَّفا الحكومة بعد أن وضعا مصلحة فرنسا فوق مصالحهما الشخصية.
وفي هذا السياق، نشير إلى كلمة مؤثّرة ومعبّرة لرئيس حكومة فرنسا ريمون بار الذي شدّدَ على أهمية وصدقيّة العلاقة الواجبة الوجود بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة قائلاً:
«Il faut qu’il y ait entre le Président et le Premier Ministre un accord intellectuel d’ensemble et une certaine relation personnelle (…) sinon l’attelage ne peut pas tenir longtemps ».
Leclerq, Claude, Droit Constitutionnel et Institutions politiques, 5ème édition, P. 594.
أي أنه يجب أن يكون هنالك اتفاق فكري شامل وشيء من العلاقة الشخصية بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وإلاّ فإنّ الدفع (أو التقدّم) لن يدوم طويلاً.
ونكرّر بأنه حيث أنّ رئيس الجمهورية كائناً من كان فهو «رمز وحدة الوطن» وبما أنّ رئيس الحكومة يمثّلها ويتكلم باسمها ويُعتبر مسؤولاً عن تنفيذ السياسة العامة، فإنه من المفترض والمنطقي أن يتعاون الإثنان في سبيل المصلحة الوطنية العليا وألاّ تكون عبارة «بالاتفاق مع» عائقاً يمنعهما من تسيير أمور الدولة ومصالح الشعب.
أمّا المسألة الثانية والتي سنعالجها فهي إمكانية دعوة الحكومة المستقيلة إلى الانعقاد سواء كان بناءً على دعوة رئيس الحكومة – المادة 64 بند 6 – أو دعوة رئيس الجمهورية – المادة 53 بند 12.
لقد نصّت المادة 64 بند 2 على «ألاّ تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نيلها الثقة ولا بعد استقالتها أو اعتبارها مستقيلة إلاّ بالمعنى الضيّق لتصريف الأعمال».
بعد اطّلاعنا على هذه المادة، فإننا نسأل: هل يجوز أن يجتمع مجلس الوزراء المستقيل لإقرار مشروع مرسوم تعديل المرسوم 6433 المتعلّق بترسيم الحدود البحرية؟
نشير أولاً إلى أنه لا يجوز لأي وزير توقيع مشروع المرسوم هذا قبل موافقة مجلس الوزراء. فالنص واضح في المادة 65 التي تضمّنت أن «تُناط السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء». كما نصّت في بندها 5 على نصاب معيّن لاجتماع مجلس الوزراء وعلى عدد محدّد للأصوات لاتخاذ القرارات. كما فرّقت بين المواضيع الأساسية التي تحتاج إلى موافقة ثلثي عدد أعضاء الحكومة والمواضيع العادية.
وفي البداية، نقول إنّ مشروع مرسوم تعديل المرسوم 6433 المتعلّق بترسيم الحدود البحرية يحتاج إلى أكثرية ثلثي عدد أعضاء الحكومة لأنه من المواضيع الهامة التي يترتّب عليها حقوق والتزامات مالية وسياسية ووطنية. أمّا السؤال الأبرز فهو، هل يحق للحكومة المستقيلة أن تجتمع لإقرار هذا المشروع؟
فرَّق الاجتهاد الإداري الفرنسي بين «الأعمال الجارية بطبيعتها أي كتلك القرارات اليومية التي تحضّرها الدوائر الإدارية والتي يكتفي الوزير بتوقيعها بعد تدقيقٍ موجز».
وبين «الأعمال المهمة التي لا يعود لحكومة مستقيلة القيام بها إلاّ في الحالات الطارئة (Cas d’urgence) على أن يبقى موضوع تحقّق الحالة الطارئة وتوافر شروطها خاضعاً لرقابة القضاء الإداري».
أمّا الاجتهاد الإداري اللبناني فلقد تناغم مع الاجتهاد الفرنسي واعتبر أنّ الأعمال العادية تنحصر في الأعمال الإدارية اليومية التي يعود للهيئات الإدارية إتمامها لتسيير الأمور العادية والأعمال الروتينية التي لا يمكن تجميدها طيلة مدة استقالة الحكومة.
قرار شورى الدولة 522 تاريخ 5/5/1999
في حين اعتبر مجلس شورى الدولة في قراره 614 تاريخ 17/12/1969 أنّ الأعمال التصرفية والتي تخرج عن نطاق الأعمال العادية والتي لا يجوز لحكومة مستقيلة أن تقوم بها، فهي «التي ترمي إلى إحداث أعباء جديدة أو التصرف باعتمادات هامة أو إدخال تغيير جوهري على سير المصالح العامة وفي أوضاع البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية تحت طائلة المسؤولية الوزارية».
ولقد برّر هذا القرار عدم إجازة الحكومة المستقيلة القيام بهذه الأعمال بحجة أنه يتعذّر على البرلمان مراقبة أعمال حكومة مستقيلة، مما يؤدي إلى ضياع المسؤولية عنها خاصةً إذا كانت هذه الأعمال قابلة للنفاذ.
لكنّ القرار 614 المذكور أعلاه استثنى من هذه الأعمال التصرفية والتي يجوز لحكومة مستقيلة أن تقوم «تدابير الضرورة التي تفرضها ظروف استثنائية تتعلق بالنظام العام وأمن الدولة الداخلي والخارجي وعلى أن تخضع لرقابة القضاء الإداري بالنسبة لتقدير ظروف اتخاذها بسبب تعذّر مراقبتها من قبل البرلمان.
سنداً لما تقدّم، حيث اعتبر الاجتهاد الإداري اللبناني (القرار 614 تاريخ 17/12/1969) أنّ الأعمال التصرفية التي ترمي إلى إحداث تغيير جوهري على سير المصالح العامة وفي أوضاع البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحيث اعتبر هذا القرار أنه لا يجوز لحكومة مستقيلة من حيث المبدأ أن تقوم بها، لأنّ من شأن هذه الأعمال إلزام مسؤولية الحكومة أمام البرلمان وإنّ السماح لحكومة مستقيلة غير مسؤولة بإجرائها يؤدي إلى ضياع المسؤولية.
وحيث أنّ هذا القرار قد استثنى من الأعمال التصرفية تدابير الضرورة التي تفرضها ظروف استثنائية تتعلّق بالنظام العام وأمن الدولة الداخلي والخارجي أي أنه أجاز للحكومة المستقيلة أن تقوم بها مشترطاً خضوعها لرقابة القضاء الإداري بالنسبة لتقدير ظروف اتخاذها.
لذلك، وبناءً على ما تقدّم، نرى أنه يحق للحكومة المستقيلة أن تُعقد لإقرار مشروع مرسوم تعديل مرسوم ترسيم الحدود البحرية رقم 6433 بناءً على دعوة رئيس الجمهورية وفقاً للمادة 53 بند 12 أو بناءً على دعوة رئيس الحكومة وفقاً للمادة 64 بند 6 لأنّ مشروع المرسوم يندرج في إطار تدابير الضرورة أو الحالات الطارئة والتي لها طابع وطني هام وعاجل ولأنه متعلق بأمن الدولة الداخلي والخارجي وعلى أن يخضع المرسوم في حال إقراره من قبل مجلس الوزراء المستقيل إلى رقابة القضاء الإداري بالنسبة لتقدير ظروف اتخاذه.
ونشير أخيراً إلى رأي العلاّمة الفرنسي René Chapus والذي يدعم فكرة التوسّع في تفسير الأعمال العادية بحجّة استمرار سير المرافق العامة إضافةً إلى حجّة عامل العجلة:
«Cela étant, il faut compter avec une tendance à interpréter extensivement la notion d’affaires courantes dans la mesure où l’exige « l’intérêt de la continuité nécessaire des services publics».
A quoi s’ajoute que l’urgence peut justifier que l’autorité démissionnaire aille au-delà de règlement d’affaires courantes.
Chapus, René, Droit administratif général, 2ème édition, p. 685.
ويمكن اختصار هذا الرأي بالآتي:
يجب الاعتماد على الاتجاه الواسع النطاق في تفسير مفهوم الأعمال العادية في الحدود التي تقتضيها مصلحة المرافق في الاستمرار الضروري. يُضاف إلى ذلك أنّ العجلة يمكن أن تبرّر تخطّي السلطة المستقيلة لمفهوم الأعمال العادية.