ثقافة وفن ومنوعات >ثقافة وفن ومنوعات
وداعاً سمير يزبك: الصوت «الموجوع» يلتحق بالعمالقة
الثلاثاء 23 08 2016 09:52رنا اسطيح
أن تسكن الرهبة والحنان في صوتٍ واحد، فهذا يعني أنّك في حضرة صوت سمير يزبك. قليلةٌ هي الأصوات التي تكتنز أوطانَها وتصبح هي الجبل وهي الوادي وهي همسات الليل ودفقُ السواقي ورنّة الخلخال وعطر الجمال وأنين الوجع ورائحة الغربة والوطن والحب. سمير يزبك هو كلّ ذلك وأكثر، هو الذي انصَهر في الوطن حتى أصبح قطعةً من لبنان، لبنان الذي غنّاه وعشِقَه وتماثلَ معه في الحياة والفرح، وخصوصاً في الوجع.رحلَ سمير يزبك أمس عن 77 عاماً، بعدما صارَع الحياة وتباطح مع المرض. رحلَ بعد وجعٍ أقساه وجعُ الصمت الذي أنزلته الحياة على تلك الحنجرة التي خُلِقت لتتفجّر شلالاتٍ مِن الإبداع. رحلَ صامتاً، وما أقسى الصمت بعد كلّ ذاك الجمال الدافق من صوتٍ تهتزّ له الجبال. 300 أغنية متوَّجة بأجمل المواويل، هي الثروة التي ترَكها سمير يزبك للبنان، وهو الحبيب الذي شقيَ في حبّه وتعذّب معه ولأجله.
إسألوا الليل عن سمير يزبك، إسألوا الساحات إسألوا أدارج «بعلبك» و»بيت الدين» و»الأرز» عن القامة الطربيّة التي غنّت للمجد والأصالة وساهمَت في صناعة الحقبة الذهبية للفن اللبناني. إسألوا «الشحّاد» كيف غنّاه سمير يزبك لينَصّبَه ملكاً في موّاله. إسألوا «الموجوع» كيف ناجاه ليتوحّد معه ويصبح هو «الموجوع» الأشهر في تاريخ الفن اللبناني.
مِن زمن فيروز وصباح ووديع الصافي وفيليمون وهبي ونصري شمس الدين وجوزيف عازار وعصام رجّي وملحم بركات، يَبرز سمير يزبك من حقبة فنّية تعبق بالأصالة. بين هذه الأسماء الكبيرة ومعها عاشَ لبنان أجملَ حقباته الفنّية.
وكان لسمير يزبك مساهماتٌ كبرى في أداء المواويل والموشّحات وتكريس مكانةِ الأغنية اللبنانية والشعبية من خلال مجموعة من الأعمال الغنائية التي ما زالت محفورةً في الذاكرة، ومنها : «إسأل عليّي الليل»، «دقّي دقّي يا ربابة»، « خِدني معك»، «الزينة لبسِت خلخالا»، «ويلي من حبّن ويلي»، « يا أعنَد حِلوة بالحي»، «حِنّي حنّي يا حنونة»، «يا مصوّر صوّر»، «دخلك يا شال»، « طلّت أمّ عيون السود»، «لو بتشك براسك ريش»، « قلها للحلوة قلها» وغيرها الكثير.
في بلدة رمحالا في عاليه، وُلد سمير يزبك عام 1939. ويقال إنّه ورثَ الصوت الجميل عن والدته التي علّمته أوّلَ موّال وجَد طريقه إلى تلك الحنجرة التي بدأت منذ سنّ السابعة تدهِش كلّ مَن يستمع إلى جمالها المهيب. هكذا كانت المحطّة التالية مع الدراسة الموسيقية المعمَّقة في الكونسرفتوار الوطني، حيث تعلّم يزبك أصولَ الغناء الشرقي والعزف على آلة العود.
أمّا دخوله مجالَ الاحتراف الفنّي فقد كان عن طريق صوت لبنان الأوّل السيّدة فيروز التي قابلته صدفةً بينما كان يعمل في صالون لتصفيف الشعر توازياً مع دراسته الموسيقية، فقدّم صاحبُ الصالون جوزيف عتيق الشابَ الموهوب إلى السيّدة فيروز، وبعدما أسمعَها صوتَه عبر آلةِ تسجيل، قال لها: «هذا الصوت الذي سمعتِه هو صوت سمير الذي يقوم بتصفيف شعرك»، فما كان من فيروز إلّا أن عرَّفته فوراً إلى الرحابنة ليبدأ معهم في الكورس عام 1961 قبل أن يتبارى عبر «الإذاعة اللبنانية» بأغنية الراحل وديع الصافي «لبنان يا قطعة سما»، ويفوز بالمرتبة الأولى، ليخطّ بذلك الدرجة الأولى في سلّمِ نجاح سيحمله صعوداً صعوداً إلى أدراج أهمّ المهرجانات وإلى قلوب كلّ اللبنانيين.
المشوار ابتدى مع أوّل أغنية خاصّة، وهي للشاعر الراحل زين شعيب، بعنوان «طول غيابك يا حلو»، ثمّ «روحي وروحك يا حلو»، وأغنية «يا مصوّر صوّر».
وفي العام 1963 تعرّف إلى المخرج والموسيقي الكبير روميو لحود وأصبح بطلَ أشهر مسرحياته الغنائية في «بعلبك» و»بيت الدين» و»الأرز»، ومنها «الشلال» و«القلعة» و«الفرمان» وسواها، ليسطّرَ مع مايسترو المسرح الغنائي حقبةً ذهبية امتدّت لغاية سبعينيات القرن الماضي.
ومع بداية الحرب اللبنانية، انتقل سمير يزبك إلى سوريا حيث حقّق نجاحات كبيرة وكانت له شعبية واسعة، قبل أن يعود إلى لبنان مع انتهاء الحرب، ويبدأ بعدها حرباً شخصيّةً ولكن هذه المرّة مع المرض الذي أجبرَه على الخضوع لسلسلة من العمليات الجراحية التي لم ترأف بصوته وحَكمت عليه بمكابدة الوجع بصمت، لتبقى أعماله الخالدة هي الصدى الباقي في الذاكرة.