مرة جديدة يتحفنا الصديق الإعلامي التوثيقي المؤهل المتقاعد علي حسين مزرعاني بكتاب من شأنه أن يغني مكتباتنا وذاكرتنا بالصور والرسوم والمنشورات التي دأب على بثها مطبوعة الجيش اللبناني بين 1942 و2016، بداية من خلال مجلة الجندي ثم من خلال مجلة الجيش، يضاف إليها مجموعة نادرة من الملصقات والصور التي تؤرخ لهذه المؤسسة الوطنية والعسكرية.

“الإعلام والتوجيه في الجيش اللبناني، 1942- 2016″ هو عنوان المؤلف التوثيقي الجديد للصديق مزرعاني، الذي يحمل إلى أناقة الإخراج والغلاف أناقة الفحوى وتدرج المعلومات التوثيقية المصورة التي تمنح الكتاب الأهمية القصوى التي تستطيع من خلال المادة التاريخية المصورة تأكيد الواقع والحقائق بما لا يقبل الشك. ويمكن وصف هذا الكتاب بالسجل الذهبي للجيش اللبناني ولمديرية الإعلام والتوجيه فيه، إذا دأبت خلال عشرات السنوات على إبراز الغايات الوطنية للجيش من خلال الثقافة والفنون التشكيلية والمصورة، لتخاطب عين المشاهد والقارئ وبالتالي قلبه وعقله، في تدليل على المؤسسة التي وجدت لتحمي الشعب اللبناني واستقلاله وحدوده الجغرافية والتاريخية، وها أننا إلى ما يحويه الكتاب من مراجع توثيقية نقف أمام إبداعات من فنون الرسم و”الكاريكاتور” التي دأب على اجتراحها كبار من رموز الفن التشكيلي في لبنان، على نحو بول غيراغوسيان، ناظم إيراني، وجيه نحلة، بيار صادق، نبيل قدوح، إدمون مشعلاني وغيرهم.

ولكي أترك لمقدمات الكتاب الحديث عن أهميته التأليفية والتوثيقية والتاريخية والفنية، التي تستهل بكلمة جميلة لقائد الجيش العماد جوزف عون أتوقف عند الطباعة الأنيقة التي تضافرت لها مجموعة من الجهود لتخرج الكتاب (قياس 24 سم × 29 سم) إلى حيز الوجود والرصيد المكتبي. فإلى صور البوسترات وأغلفة أعداد مجلتي “الجندي اللبناني” و”الجيش” وصور مناسبات الاستقلال وأعياد الجيش طوال أكثر من ثمانية عقود انتشرت على صفحات بيضاء موزونة، ندخل إلى حيز الكتاب من غلافه الجميل (تصميم الفنان كامل جابر) الذي تصدرته لوحة للفنان الراحل بول غيراغوسيان (1981) وخطوط للفنان حسين يونس، ثم ندخل لنعانق خطوط الإهداء التي خطها برشاقة معهودة الفنان المخضرم علي عاصي. ونقرأ التدقيق اللغوي للدكتور محسن جواد ولوحة بورتريه غلافية للمؤلف من إبداع الفنانة التشكيلية خولة الطفيلي. أما مادة الكتاب الأرشيفية من الملصقات والصور وأعداد مجلتي “الجندي اللبناني” و”الجيش” فقد استقاها الكاتب المؤلف من مجموعته الخاصة ومن مكتبات المحامي هيام ملاّط والمؤهل أول خالد قاسم والباحث عبودي بوجودة، إلى أرشيف مديرية التوجيه.

قائد الجيش

في تقديمه للكتاب يقول قائد الجيش العماد جوزف عون: “إنها العين الثاقبة التي تجمع مهمتين في آن معاً، عين تراقب لتحمي وعين تسجّل ذاكرة الجيش والوطن. ذاكرة سيحفظها كتاب “الإعلام والتوجيه في الجيش اللبناني” للأجيال القادمة، تتعرف من خلاله على تاريخ لبنان والمؤسسة العسكرية منذ نشأتها وحتى يومنا هذا.

مجموعة صور مختارة من مجلة الجندي ومجلة الجيش وباقة ملصقات ومطبوعات وصور دعائية جمعها المؤهل المتقاعد علي حسين مزرعاني في كتاب ويستحق أن يكون مرجعاً يوثّق مراحل تطور الإعلام العسكري في مديرية التوجيه.

هو جنوبي صامد، حمل سلاحه في يد وآلة التصوير في يد أخرى، يؤرخ ومضات من تاريخ عمله في مديرية التوجيه، وما كتابه اليوم إلا دليلاً على انتمائه الوثيق والعميق للمؤسسة العسكرية، ومبادرته خير شاهد على أن جيشنا يزخر بالمبدعين في مختلف المجالات.

قائد الجيش العماد جوزف عون

اليرزة في 26/03/2018″

العميد قانصو

وفي مقدمة مدير التوجيه في الجيش اللبناني العميد علي قانصو نقرأ: “مبادرة طيبة من المؤهل أول المتقاعد علي حسين مزرعاني، بإعداده هذا الكتاب القيّم، الذي يحوي بين دفتيه جزءاً من وقائع المرحلة التي واكبت تأسيس الجيش اللبناني، ونشاطات الإعلام العسكري بين العامين 1942 و2016.

ولعلّ ما يميز هذا الكتاب، هو توجه مؤلفه إلى التأريخ والتوثيق بالصور والملصقات الفنية الصادرة عن مديرية التوجيه، سواء خلال المناسبات الوطنية أو إثر المواجهات التي خاضها الجيش ضد العدو الإسرائيلي والعابثين بالأمن وصولاً إلى الإرهاب، وذلك كتعبير من المديرية عن رسالة المؤسسة العسكرية وإنجازاتها وتضحياتها في تلك المحطات…”.

شربل فارس

وتتناول مقدمة الفنان التشكيلي شربل فارس بإسهاب تاريخ ميلاد الملصق “البوستر” والمراحل التاريخية والفنية المهمة التي ساهمت في أداء دوره والغاية التي وجد من أجلها، ولذلك ننشرها كاملة، لكي تكون مادة بيد الباحثين والمهتمين:

من اللوحة إلى الصورة فالملصق

يقول علي حسين مزرعاني، في تمهيد الكتاب الذي أنجزه عن الإعلام والتوجيه في الجيش اللبناني: “موضوع لم يطرق من قبل، ولم يأخذ الحيّز الكافي من البحث، وما هذا الكتاب إلاّ مدخل للباحثين، ومادة جاهزة على بساط الدارسين لفترة تمتد من عمر الاستقلال حتى يومنا هذا”.

وفي هذا الجهد التوثيقي يحثنا علي مزرعاني على تلمس السياق الذي سلكه الملصق “الرسمي” اللبناني العسكري منذ العام 1942 حتى العام 2016، وما هي ميزاته وكيف له أن يتطور مستفيداً من التكنولوجيا الحديثة، في انتشار مواقع الانترنت كوسيلة حديثة للتعبير، بل كصانع سياسة في عصر العولمة.

الملصق، في تعريفه الأولي، هو ورقة مطبوعة وضعت لغرض دعائي، يتم إلصاقها على الحائط ليراها كل الناس، والهدف منها إيصال فكرة معينة بشكل جذاب وملفت وسريع.

لذلك انطلقت البداية، في أعقاب الثورة الصناعية في أوروبا، بغية الترويج للمنتوجات والبضائع التجارية والصناعية على شكل منشورات، وكان الملصق التجاري الذي اعتمد على التلخيص في الإعلان بقليل من النص الكتابي لإغراء المستهلك. وتطور الملصق مع تطور تقنيات الطباعة من الحفر على الخشب، والزينكوغراف، فالليتوغراف والطباعة الحجرية… إلى الكومبيوتر، واستحدثت لهذه الغاية برامج معلوماتية متطورة. واتخذ الملصق مفهومه الأوّلي كفن مستقل في تسعينيات القرن التاسع عشر مع الفنان الفرنسي هنري – دولولوز لتريك حيث انتقل من الترويج التجاري إلى ملصقات صممت خصيصاً للمسارح وقاعات الرقص…

أول ملصق سياسي ولد في روسيا عام 1919 للدفاع عن الجمهورية… ومع الفعالية التحريضية للملصق السياسي تطور هذا الفن من الترويج التجاري إلى الخطاب السياسي والإيديولوجي، طوال القرن العشرين، لا سيما في الحربين العالميتين والحروب الإقليمية والحرب الباردة. وكانت ملايين الملصقات التي عملت على تحريض الشعوب لمساعدة الجيوش مالياً ومعنوياً، والانخراط في الجبهات للقتال أو لأعمال تطوعية في مختلف الميادين.

وفي عصر العولمة والثورة التكنولوجية فقد الملصق التقليدي رواجه ليتحول إلى وهج في المسيرات الجماهيرية المناوئة للحروب والمناصرة للبيئة… ولم يعد الملصق مقتصراً على الجدران والساحات العامة بل تدرج إلى شعارات ويافطات، إنما تحولت الشعارات المكتوبة والمرسومة إلى هتافات… واستفاد الملصق السياسي الحديث من التكنولوجيا الحديثة، وانتشار مواقع الانترنت، والتواصل الاجتماعي كوسيلة للتعبير متاحة للجميع، لا بل كأحد صناع السياسية المحلية والإقليمية..

بعد هذا العرض السريع لتطور فن الملصق نسأل عن تمظهره في الإعلام والتوجيه في الجيش اللبناني في هذا الكتاب الذي أنجزه علي مزرعاني.

في استعراض ما توفر من أرشيف، يمكننا القول أن مسيرة الملصق العسكري اللبناني مرت بثلاث مراحل:

مرحلة اللوحة – الملصق 1942 – 1979.
مرحلة الصورة – الملصق 1979 – 1990.
مرحلة الملصق السياسي والإعلامي 1990 – 2016.
في المرحلة الأولى كانت اللوحات، وتحديداً الرسومات، تتصدر غلاف مجلة “الجندي اللبناني” وغالباً بالأسود والأبيض، وعلى الصفحات الداخلية توزعت الصور الفوتوغرافية “المعللة” لنشاطات، واحتفالات ومناسبات وطنية (عيد الاستقلال، عيد الجيش…). وحملت هذه الصور الفوتوغرافية، بالأسود والأبيض هموم اللوحة التشكيلية وإيقاعات تمظهرها أكثر من همّ التصوير الفوتوغرافي التوثيقي، من حيث التأليف الجدي الصارم لعناصر الصورة – اللوحة، وكأن تلك الصور الفوتوغرافية لا زالت تحت تأثير الطابع الإعلامي للانتداب الفرنسي، إذ تغلبت عليها الانضباطية الإعلامية في توزيع المفردات (الجندي – شعارات الجيش – المناسبات الوطنية) وتقترب اللوحة – الملصق من طابع “البوستر المنبري” وكأنها تحت تأثير البوستر الروسي والألماني والفرنسي (حقبة الحرب العالمية الثانية) بتسليط الضوء على نقطة محورية بهدف إعلامي دون الوقوع في المبالغة التحريضية الساخنة. وعلى أغلفة تلك المرحلة شخصيات تاريخية وقيادات وطنية.. وعرف من فنانيها ناظم إيراني.

في المرحلة الثانية ومع تطور التصوير الفوتوغرافي الذي يؤرشف للمناسبات الوطنية بحرفية الكادر والنور والظل، فغلبت على تلك المرحلة مفردات صورة الحرب اللبنانية والصراع الدائر بين أطرافها، ودور الملصق – التحريضي وتعدد الموضوعات فيه ودخول الملصق الفلسطيني وكذلك الملصق العربي وتداعياتهما على الملصق اللبناني (ملصق الأحزاب والتيارات…) وبين هذه الملصقات حاولت الصورة – الملصق الصادرة عن الإعلام والتوجيه في الجيش اللبناني أن تتميز، اعتباراً منه، أنه ليس طرفاً في الصراع الدائرة، إنما هو “أم الولد”.

وفي مرحلة الحرب الدائرة على أرض الوطن كان غلاف “الجندي” حذراً وشبه “محايد” عن الصراعات الأهلية. أخذت “الصورة الرسمية” تقترب من فن الملصق تماشياً مع تطور الأحداث والحاجة إلى تطوير الملصق في النص أكثر منه في الرسم في محورية الجندي المنقذ لكل لبنان بما يشبه “الفلاشات”.

وكانت ترتكز على “الجندي يمسح دمعة الوطن – لا للمؤامرة – بيروت الكبرى في كنف الشرعية – الإنتماء العربي – التصدي للاحتلال الإسرائيلي…)

ومع أن “ملصق” الجيش اللبناي تأثر هو أيضاً بملصقات الحرب (التعبئة – التحريض – المباشر في مخاطبه الجماهير…). لكنه ظل محافظاً ومتحفظاً على مفردات الحرب الدائرة على أرضه. فيصطفي مفردات سهلة “جامعة”، والتركيز على الصور والدلالات التعبيرية القريبة من الذاكرة الشعبية، والإصرار على وحدة لبنان ووحدة جيشه وشعبه وأرضه (خريطة لبنان – الأرزة – عيد الجيش عيد كل لبنان من كل لبنان ولكل لبنان وفي كل لبنان… الخ).

إلاّ أن المفردات الفنية في (الصورة – الملصق) ظلت خجولة وتبسيطية دون “لمعات” الملصق الفني. أخذت الصورة من الملصق نقطة الارتكاز فيه أو نقطة إسناد (الجندي اللبناني) اعتمد معظمها على الصورة أو الصورة الفوتوغرافية السريعة الواضحة دون تعقيدات تقنية.

من فناني تلك المرحلة بول غيراغوسيان، وجيه نحلة، بيار صادق، نبيل قدوح، إدمون مشعلاني وغيرهم…

المرحلة الثالثة: كانت في بداياتها استمراراً “منقحاً” للمرحلة الثانية في محاولة للا

نعتاق من الصورة – الملصق، إلى الملصق – الصورة، فالملصق السياسي – الإعلامي…

هي مرحلة جديدة وضعت فيها الحرب أوزارها بعد “اتفاق الطائف” وبداية السلم الأهلي ووصل ما انقطع – والنهوض لاستعادة الوطن… انعكست هذه الاشارات الإيجابية على العناوين الوطنية الجامعة في وحدة الوطن، وحل الميليشيات، والرهان على الجيش اللبناني الواحد الموحّد…

استكانت الصورة المأساوية التحريضية التي تشتت مفرداتها في الحرب، لتصبح أكثر استقراراً وهدوءاً والتركيز على عناوين ثابتة عامة انطلاقاً من الخطاب التوجيهي بحشد الكلمات، إلى رمزية الصورة بكلمات قليلة.

مع أن الملصقات في هذه المرحلة أيضاً بقيت مرتكزة على المناسبات الوطنية والعسكرية (عيد الاستقلال – عيد الجيش…) وعلى تطورات مستجدة (تحرير الجنوب – محاربة الإرهاب – اليوبيل الذهبي…) ولكن الملصقات قطعت شوطاً كبيراً في تطورها والاستفادة من الثورة التكنولوجية في طباعة الملصق ونشره بمقاسات كبيرة وملفتة وملونة على الطرقات وفي الساحات في مختلف أنحاء البلاد. كما عمدت مديرية التوجيه على إشراك طلاب الجامعات في تصميم الملصقات وإجراء مسابقات سنوية لاختيار أفضل ملصق…

وفي العقد الأخير من المرحلة الثالثة يمكن القول أننا بدأنا نتلمس جدوى محاولات إصدار الملصق بمقوماته الحديثة.