بأقلامهم >بأقلامهم
"محضر ضبط"!
جنوبيات
"القاضي حسن محسن الأمين" مواليد العام 1908 وتوفّاه الله العام 2002 :
هو أديبٌ وشاعرٌ ومؤرّخٌ لبنانيٌّ من بلدةِ "شقرا الجنوبيّةِ" وهو نجلُ العلّامةِ السيّد "محسن الأمين" طيّبَ اللهُ ثراه.
مارسَ رسالةَ القضاءِ وكان مميّزًا في أحكامِه إنْ لجهةِ سردِ الوقائع بلغةٍ عربيّةٍ راقيةٍ ومتقَنةٍ، وإن لجهةِ إعطاءِ اللبوس القانونيّ لهذه الوقائع. وكانت أحكامُه بمنزلةِ صفحةٍ أدبيّةٍ مميّزةٍ، بصيغةٍ قانونيّةٍ ولا أجمل. ويُذكر أنّه في العام 1944 أصدرَ حكمًا يُعدُّ من طرائفِ الأحكامِ، وفقًا لما سيتمُّ سردُه:
حكمٌ قضائيّ صادرٌ عن قاضي صلح النبطيّة بتاريخ 12/4/1944، الرئيس حسن الأمين، موضوعه محضر ضبط نظم بحقّ فلّاح لعدم الرفقِ "بحماره"، الجرائم المنصوص عليها في القانونِ.... وممّا جاءَ فيه:
"في المحاكمةِ العلنيّةِ تبيّنَ أنّه نُسبَ إلى المدّعى عليه ... أنّه كان يحرثُ الأرضَ (على راس بقر وحمار) وأنّ في هذا عدمَ رفقٍ بالحمارِ ينطبقُ على القرارُ 3016". وبعد أن استعرضَ الحكمَ نصَّ المادّة القانونيّة موضوع الملاحقةِ تساءل عمّا إذا كانت المادّةُ تنطبقُ على عملِ المدّعي، فيوردُ معلّلًا:
"إنّ هذه المحكمة تجيبُ بكلمةِ لا وهي مطمئنّة إلى هذا الجوابِ... فهل الحراثةُ على الحمارِ إساءةٌ إليه؟ إذا كان المشرّعُ يقصدُ الإساءةَ المعنويّةَ أو بعبارةٍ أوضح الإهانة، فلا شكّ أنّه ليس في الحراثةِ على الحمارِ إهانةٌ له بل ربّما كان فيها تكريمٌ له وذلك برفعِه عن مستوى بني جنسِه الحمير وقرنه إلى فصيلةٍ أعلى وهي فصيلة البقرِ. ومهما يكن من أمرٍ، فمن ذا يستطيعُ أن يقولَ وضع النيرِ على العنقِ هو أكثر إهانةً من الرّكوبِ على الظّهرِ؟ وإذا كان المشرّعُ يقصدُ الإساءةَ المادّيّةَ فأغلب الظنِّ أن لا فرقَ عند الحمارِ بين أن توقره بالأحمالِ الثّقيلةِ، وبين أن تشدّ عليه المحراث بل ربّما كانت الثّانيةُ أقلّ مشقّة وأخفّ كلفة، وعلى كلٍّ فمرجعُ كلّ ذلك إلى الحمارِ وحده. وما دام الحمارُ عاجزًا عن إيضاحِ هذه النّقطةِ فتظلّ موضع شكّ، وفي حالةِ الشكّ لا بدّ من مراعاةِ جانب المدّعى عليه.
...... ونحن لا نستطيعُ أن نقولَ إنّ عملَ المدّعى عليه غير جائزٍ بل نرى فيه كلّ الجوازِ، فلّاح فقير يموتُ ثورُه ولا يملكُ نقودًا بل يملكُ حمارًا فينتدبُ حمارَه العتيد مكان ثورِه الفقيدِ إلى أن يفرجها الله عليه فيفرجها هو على الحمارِ".
رحمَ الله هذا القاضي الّذي تعمّد الاستهزاء بتعسّف سلطةِ الملاحقةِ الّتي لاحقت فلّاحًا معدِمًا واكتوى قلبها على الحمارِ، تاركةً حيتان المالِ والفسادِ تسرحُ في سرقةِ أموالِ البلدِ ونهبِها، وما أشبهَ اليومَ بالأمسِ.
على أملِ أن تسلكَ العدالةُ مجراها الطبيعيّ في إحقاقِ الحقِّ ومحاسبةِ الفاسدين مهما علا شأنُهم.
فالحقُّ أحقُّ أن يُتبع...