عام >عام
رحيل المربي نصار الموعد... الذاكرة الوطنية المُتقدة
الأربعاء 1 05 2019 08:35هيثم زعيتر
برحيل المربي نصار موعد سليم الموعد، نفتقد رجلاً بكل ما للكلمة من معنى، من معدن أصيل طيب، وعائلة كريمة مناضلة وبلدة مجاهدة. ناضل من أجل قضية فلسطين بوسائل شتى، في "حركة القوميين العرب"، مع اللبنات الأولى لانطلاقتها في خمسينيات القرن الماضي.
مُربٍ للأجيال لعقود عدّة، وعامل على التوعية الوطنية، وهو صاحب الذاكرة المتقدة، المُحصّنة من "فيروسات" الادعاءات الواهية لكثر، وهو ما كان يُزعج "أبو خالد".
امتاز بدماثة خلقه، وإطلالته البهية، وأناقته المعهودة، وطلاقة لسانه، وحسن حديثه، وابتسامته التي لا تفارق ثغره، حتى في أحلك الظروف وأصعبها.
طيّب المحيا، ومبادر للسلام على الصغير قبل الكبير، وفيّ وصادق وحريص على التواصل، ليس مع أبناء جيله من الأصدقاء، بل مع ذريتهم.
أبصر نصار الموعد النور في بلدة صفورية - قضاء الناصرة في فلسطين المحتلة، في العام 1936، وكان في ريعان الشباب، يوم اضطر للنزوح مع والده موعد الموعد والعائلة بعد نكبة فلسطين في مثل هذه الأيام من العام 1948، إلى أن حط الرحال بهم في بلدة الغازية الجنوبية، التي رحل فيها، وهو يحنّ إلى مسقط الرأس وأرض المرسلين، التي يحدّثك عنها بشغف، فلم تشغله هموم الدنيا والمتغيرات، والتطورات عن تعلقه بوطنه الأم.
كان الأستاذ نصار، شاهداً على ولادتي، فهو صديق الوالد في الدراسة والنضال، في الطلائع الأولى لـ"حركة القوميين العرب"، ومنذ الصغر تفتحت عيناي وذاكرتي على هذه المجموعة المناضلة التي كانت تلتقي في منزل الوالد، حيث حدّثني الأستاذ نصار عن تأسيس أوّل هيئة إدارية لـ"نادي الشباب العربي الفلسطيني" في مخيم عين الحلوة، وكانت تضم: سليم زعيتر، صلاح صلاح، نصار الموعد، سليم أبو سالم، إبراهيم حسين العلي، سعيد الصالح وأحمد خالد شريدي، والدور الذي كانت تقوم به من نشاطات ولقاءات ومحاضرات وندوات تثقيفية ومحاربة التوطين، ومشاريعه وتحسين الظروف المعيشية، وكانوا على تواصل دائم مع أحمد اليماني "أبو ماهر" وتيسير قبعة وقيادات "القوميين العرب".
كانت نخبة من بينهم تعقد اجتماعاتها في منزل سليم الشماع في مدينة صيدا، وتضم: عبد الكريم حمد قيس، سليم زعيتر، صلاح صلاح، فيصل عابد، سليم أبو سالم، إبراهيم حسين العلي، جميل بيرم، القاضي جميل بيرم، أحمد محمود شناعة، مصطفى صالح، خضر صالح، حسين الزين، فؤاد الزين، محمّد صوفان، لطفي عابد، سعيد الصالح، أمين أطرق ومهى لطفي.
وبعد رحيل الوالد في آب 1989، بقي التواصل مع الأستاذ نصار الموعد، الذي كنت أجده في طليعة المشاركين في النشاطات التي أقيمها ويحرص بين حين وآخر على إطلاعي على صور أو أوراق، مُوثقة عليها، بخط يده الجميل وكلماته البليغة، محطات نضالية أو وطنية.
ما يلفت الانتباه هو دقة ملاحظاته وطريقة توثيقه للأحداث وأسلوبه السلس، ما يُؤكّد تمتعه بذاكرة مُتيقنة.
في زيارته الأخيرة قبل أيام من الرحيل، وعلى الرغم من آلام المرض العضال، إلا أنه لم يكن يُشعر زائره بتلك الآلام، فهو مؤمن يشكر الله سبحانه وتعالى على كل شيء.
خلال تلك الجلسة الطويلة بمشاركة رفيقة دربه الحاجة "أم خالد" وابنته وصهره وحفيده، كان حديثه يتركز على فلسطين، ويقينه بالتحرير، معولاً على الجيل الواعد، وهو يُشاهد ويستمع إليهم وهم يؤكدون تمسكهم بفلسطين، سواسية من الصامدين على أرضها واللاجئين التواقين للعودة إليها.
يتطرق الحديث إلى أحد أقاربه أبو النمر الموعد، وابنه الطفل موعد الموعد، الذي التقيت به خلال الاعتصام التضامني على أرض قرية الخان الأحمر - شرقي القدس، بمشاركة الأسيرة المحررة عهد التميمي، وحديثه الذي يُؤكّد مدى الوعي الذي يتحلى به الجيل الواعد، المُتيقن من التحرير، والمتمسّك بحق الآباء والأجداد، داحضاً مقوله ديفيد بن غوريون: "غداً الكبار يموتون والصغار ينسون".
في بلدة الغازية، حيث اختار "أبو خالد" الإقامة بعد نكبة فلسطين، كبار وصغار يعرفونه، ويتحدثون عن سيرته العطرة، في البلدة التي احتضنت اللاجئين الفلسطينيين كأبنائها. ووري الثرى فوق ضريح والده، على بعد أمتار من مسجد بلدة الغازية، ومرمى حجر من كنيسة سيّدة المنطرة في مغدوشة، حيث كانت تنتظر السيدة مريم العذراء ابنها سيدنا عيسى (عليه السلام)، على مقربة من مخيم عين الحلوة، الذي كان قلبه يتألم وهو يشاهد، ويسمع فتك مجموعات خارجة عن القانون بأمنه.
رحيل الأستاذ نصار الموعد، جمع ما كان يجمعه ويتواصل معه في حياته من أتراب وتلامذة وأهل وأصدقاء. فما أحوج ما نكون إلى أمثاله، مدرساً مُميزاً، ومعلماً يرسم الطريق للأجيال، وأباً أنجب وربّى ذرية صالحة، ومعلماً بين الناس في زمن تزيد فيه إحاكة الفتن والمؤامرات.
رحم الله "أبو خالد"، وأسكنه فسيح جنانه، وألهم أهله وعائلته وأهالي بلدته ومحبيه الصبر والسلوان.