بأقلامهم >بأقلامهم
بالنظام - في الانحدار
جنوبيات
يتمتع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بثقافة واسعة وطلاقة كبيرة، ويعترف له الجميع بالاندفاع والمبادرة على صعيد سياسة بلاده الخارجية، وإن كانت النتائج لا تتناسب مع الجهود التي بذلها والإنجازات لا ترقى إلى مستوى الآمال التي توخاها. حتى أن منافِسَتَه في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية مارين لوبن اعترفت بجهوده خلال حديثها عن لبنان في مؤتمرها الصحافي قبل يومين.
اليوم مع استمرار العلاقات التاريخية القوية، ووجود عدد كبير من الناخبين حاملي جنسية البلدين، يُفترض أن يُنظر لتلك الانتخابات من المنظار اللبناني، بعيداً عن المواقف العاطفية والانفعالية التي يميل إليها البعض أو تلك التي تنطلق من جدليات السياسة الداخلية الفرنسية وتصنيفاتها لليمين واليسار واليمين الجديد والمتشدد أو المتطرف وغيرها من المسميات، التي يجب ألّا تعني شيئاً إلا بقدر انعكاسها على لبنان.
علاقة لبنان بفرنسا ونظرة اللبنانيين إليها تغيرت أو تطورت خلال العقود الماضية، والثابت أن آمال أعداد من اللبنانيين ما تزال تُعلّق عليها. وبعد أن كانت العلاقة شبه محصورة بطائفة واحدة انضم كثيرون من طوائف أخرى إلى الإقرار بأهمية تلك العلاقة. ولكن اكتساب فرنسا عاطفة شرائح إضافية من الشعب اللبناني تزامن مع تراجع نفوذها وأدائها الخارجي. وقد وصف الصحفيان المتخصصان جورج مالبرونو وكريستيان شينو ذلك مؤخراً بـ "الانحدار الفرنسي" في كتابهما الذي تضمن تفاصيل زيارات الرئيس ماكرون إلى لبنان واجتماعاته برموز السلطة بعد تفجير مرفأ بيروت والمبادرة الفرنسية الشهيرة التي منيت بالفشل.
لقد دفع ماكرون ثمن تعويمه قوى السلطة التي نبذها اللبنانيون، فبدل أن تتحمل نتيجة الانهيار المالي والاقتصادي وتفجير المرفأ، أعاد تنصيبها لتمثيل اللبنانيين في الحوار مع المجتمع الدولي، وبذلك أتاح لها إعادة فرض أولويات رموزها بعد أن كانوا قد بلغوا الإفلاس السياسي الكامل، وتمكنوا تالياً من إفراغ مبادرته من محتواها. ومن الأخطاء التي ارتُكِبت في سياق تلك الحوارات الفرنسية اللبنانية، كان التنازل عن تقريب موعد الانتخابات النيابية وبالتالي خسارة الفرصة التي كانت متاحة آنذاك لقيام قوى تغيير تعبّر عن نبض اللبنانيين وتتمكن من المنافسة الجدية المتكافئة آنذاك مع السلطة، فانتهت التجربة الى بعض المرشحين المتسلقين الذين يعجزون عن تحريك الشارع أصلاً.
كما أن حضور الرئيس ماكرون ساهم في امتصاص غضب اللبنانيين الذين ظنوا أن مجيئه كان لإنقاذهم بالفعل. ولكن أولويات الرئيس كانت احتواء تداعيات تفجير المرفأ على إسرائيل، وعقد اتفاق مع أصحاب النفوذ بإعطائهم جرعة أوكسيجين مقابل بعض الاستثمارات الفرنسية وأهمها مرفأ بيروت القتيل. وبالفعل تم تلزيم محطة الحاويات للشركة الفرنسية التي اصطحب ماكرون رئيسها في طائرته الرئاسية إلى لبنان بُعيد تفجير المرفأ.
لقد عرفتُ ثلاث مرشحات للرئاسة الفرنسية الحالية، هنّ رئيسة منطقة إيل دو فرانس فاليري بيكريس ورئيسة بلدية باريس آن إيدالغو، بالإضافة إلى مرشحة التجمع الوطني مارين لوبن. الأولى والثانية، وإن كانتا على طرفي نقيض في السياسة الفرنسية فقد قدمتا الكثير من موقعيهما لبيروت ولبنان.
أما لوبن المستمرة في الدورة الثانية من السباق الرئاسي، وبصرف النظر عن تصنيفات النخب الحاكمة لها، فهي تتمتع بشخصية قوية ومحبّبة، كما أنها تملك نظرة جدية مسؤولة تجاه العلاقة المتينة مع لبنان، وقد دلّ حديثها الأخير قبل يومين على إدراك منها لخطورة المرحلة التي يمرّ بها لبنان ومعرفة لوسائل الإنقاذ الفعالة والواقعية.
خارج السياق العاطفي الذي يتعاطى فيه البعض مع فرنسا وخارج التحليلات التي تنطلق من مواقف المرشحين الداخلية كعلاقة فرنسا بالأديان أو بالاتحاد الأوروبي وغيرها، وهي مسائل لا شأن للبنانيين بها، وطالما أن الخيار أمام اللبنانيين الفرنسيين أصبح محدوداً، لا أعتقد أن من مصلحة لبنان أن يختاروا مزيداً من الانحدار.