بأقلامهم >بأقلامهم
نظرة في مفهوم الدولة من أفلاطون إلى الإمام الخميني: رحلة عبر الفكر السياسي



جنوبيات
الدولة، كمؤسسة سياسية واجتماعية، تشكل محوراً رئيسياً في تاريخ الفكر الإنساني. منذ الحضارات القديمة وحتى العصر الحديث، حاول الفلاسفة والمفكرون صياغة رؤىً مختلفة لطبيعة الدولة ومهامها، سعياً لتحقيق العدالة والاستقرار والكمال الإنساني. يسلط هذا المقال الضوء على تطور مفهوم الدولة عبر أربع محطات فلسفية رئيسية: رؤية أفلاطون للدولة المثالية، وأفكار الإمام علي بن أبي طالب "ع" الأخلاقية، وتأملات هيغل في دولة الروح، ونموذج الإمام الخميني "قدس" للدولة الإسلامية.
تهدف هذه المقارنة إلى استكشاف كيف شكلت هذه الرؤى فهمنا الحديث للدولة ودورها في تحقيق السعادة الإنسانية.
أفلاطون ودولة العدالة
يُعتبر أفلاطون (427-347 ق.م) أحد أبرز من وضعوا الأسس الفلسفية لمفهوم الدولة.
في كتابه "الجمهورية"، قدم تصوراً للدولة المثالية القائمة على العدالة، والتي قسّمها إلى 3 طبقات:
1- الطبقة الاقتصادية (التجار والحرفيين)، المسؤولة عن الإنتاج.
2- طبقة الحراس، المكلفة بالدفاع عن الدولة.
3- طبقة الحكام الفلاسفة، الذين يمتلكون الحكمة والقدرة على إدارة الدولة بعقلانية.
يرى أفلاطون أن العدالة تتحقق عندما تعمل كل طبقة وفق وظيفتها دون تدخل، مع سيادة العقل ممثلاً بالفلاسفة الحكام.
كما حذّر من أشكال الدول المنحرفة، مثل:
- الدولة الدينية: تُسيطر عليها المصالح المادية وتؤدي إلى العنف.
- الدولة الإقطاعية: تحكمها النخبة الثرية.
- الدولة الديمقراطية الفوضوية: تفتقر إلى القيادة الواضحة.
- الدولة الاستبدادية: تسيطر عليها مصالح الحاكم الشخصية.
يرى أفلاطون أن الدولة المثالية هي انعكاس مكبر للنفس الإنسانية، حيث يسيطر العقل (طبقة الحكام) على القوى الغاضبة (الحراس) والشهوانية (العمال).
ويربط بين الأخلاق والسياسة، معتبراً أن غاية الدولة هي تربية الأفراد لتحقيق الفضيلة.
الإمام علي بن أبي طالب "ع" ودولة الأخلاق
في الفكر الإسلامي، تمثل وصايا الإمام علي "ع" (599-661 م) نموذجاً للدولة الأخلاقية القائمة على العدل والرحمة. في عهده إلى مالك الأشتر عند توليته حكم مصر، حدد مبادئ الحكم الرشيد، منها:
- العدل: "ما حُصِّن الدولُ بمثل العدل"، فالدولة العادلة تحمي نفسها من الانهيار.
- الرحمة بالرعية: "أشعر قلبك الرحمة للرعية... فإنهم صنفان: إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق".
- الحذر من الفساد: مثل الاستئثار بالسلطة أو جمع الثروات، الذي يؤدي إلى الحسد والفرقة.
حدد الإمام علي "ع" علامات انهيار الدولة، مثل:
1- تضييع الحقوق الأساسية.
2- تقديم الأراذل على الأفاضل.
3- الاستبداد والتفرد بالسلطة.
4- إهمال العبرة من التجارب السابقة.
يرى أن الدولة القائمة على الجور والفساد محكوم عليها بالزوال، بينما تقوم الدولة الصالحة على مراعاة حقوق الإنسان وربط الدنيا بالآخرة.
هيغل ودولة الروح
قدم الفيلسوف الألماني جورج فيلهلم فريدريش هيغل (1770-1831) رؤية مثالية للدولة كتجسيد للعقل والروح الإلهية على الأرض. يرى أن الدولة هي "الروح الموضوعية" التي تحقق الحرية الحقيقية للأفراد من خلال الاندماج في الكل الاجتماعي. قسم هيغل تطور المجتمع إلى ثلاث مراحل:
1- الأسرة: الوحدة الأخلاقية الأساسية.
2- المجتمع المدني: مجال المنافسة الفردية والمصالح الاقتصادية.
3- الدولة: المرحلة العليا التي تتجاوز المصالح الفردية لتحقيق الرفاهية العامة.
على عكس الديمقراطيات الليبرالية، يرى هيغل أن الدولة ليست نتاج اتفاق تعاقدي، بل هي تعبير عن الإرادة العقلانية التي تعلو على الأفراد. وبالتالي، فإن واجب الفرد الأسمى هو الخضوع لقوانين الدولة، التي تمثل "الحرية في أسمى صورها".
الإمام الخميني "قدس" ودولة الشريعة
في العصر الحديث، أعاد الإمام الخميني "قدس" (1902-1989) صياغة مفهوم الدولة الإسلامية في إطار "ولاية الفقيه"، مستنداً إلى المبادئ التالية:
1- السيادة لله: التشريعات مستمدة من القرآن والسنة، وليست من إرادة البشر.
2- المرجعية الرشيدة: يُشترط في الحاكم الاجتهاد الفقهي والعدالة.
3- دور الأمة: تمارس السلطة كخليفة لله، مع المساءلة أمام الشريعة.
رفض الإمام الخميني "قدس" النظم الديمقراطية العلمانية، معتبراً أنها تحكمها الأهواء البشرية، بينما الدولة الإسلامية تُبنى على العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروات وتحرير الإنسان من العبودية لغير الله. كما أكد على دور الدولة في نشر القيم الإسلامية عالمياً ومقاومة الاستكبار.
الاستخلاص والنتيجة
عبر هذه الرؤى الأربع، يتضح أن مفهوم الدولة تطور من فكرة مثالية مجردة (أفلاطون) إلى نموذج أخلاقي (الإمام علي "ع")، ثم إلى تجسيد للعقل (هيغل)، وانتهاءً بمشروع ديني شمولي (الإمام الخميني "قدس"). ورغم اختلاف السياقات، تشترك هذه النماذج في سعيها لتحقيق العدالة والكمال الإنساني، لكنها تتباين في الوسائل:
- أفلاطون يعتمد على الفيلسوف الحاكم.
- الإمام علي "ع" يركز على الأخلاق والعدل.
- هيغل يرى الدولة ككيان عقلاني متجاوز.
- الإمام الخميني "قدس" يجعل الشريعة أساساً للحكم.
اليوم، تظل هذه الأفكار مرجعية لفهم تحديات الدولة الحديثة، مثل الموازنة بين السلطة والحرية، أو تحقيق العدالة في ظل التنوع. فهل يمكن أن تتعايش هذه الرؤى في عالم معولم؟ ربما تكمن الإجابة في القدرة على استلهام القيم المشتركة: العدل، الأخلاق، والعقلانية، كأسس لأي دولة تسعى لتحقيق سعادة الإنسان.
عبر العصور، تجلّى مفهوم الدولة كمرآة تعكس تطلعات الفلاسفة والمفكّرين نحو تحقيق العدالة والكمال الإنساني، متأثراً بالسياقات الثقافية والدينية لكل عصر.
بدءاً من أفلاطون، الذي صوَّر الدولة المثالية ككيانٍ هرمي تُدار فيه السلطة بالعقل والحكمة، حيث يسيطر الفلاسفة على طبقات المجتمع لضمان العدالة، مروراً بالإمام علي بن أبي طالب "ع"، الذي ربط الحكم الرشيد بالأخلاق والرحمة، وحذّر من الاستبداد والفساد كعوامل تُنهي عمر الدول. ثم جاء هيغل ليرى الدولة تجسيداً للروح والعقل، حيث تعلو الإرادة الجماعية على المصالح الفردية، وتُحقّق الحرية الحقيقية عبر الاندماج في الكل الاجتماعي.
وأخيراً، الإمام الخميني "قدس"، الذي أعاد صياغة الدولة في إطار ديني، جاعلاً الشريعة أساساً للحكم، وولاية الفقيه ضمانةً لتحرير الإنسان من عبودية البشر إلى عبودية الله.
على الرغم من اختلاف هذه الرؤى في المنطلقات الفلسفية أو الدينية، فإنها تلتقي في سعيها نحو غايةٍ واحدة: بناء دولة عادلة تُكرّس سعادة الإنسان وتصون حقوقه. فالأخلاق عند الإمام علي "ع"، والعقلانية عند هيغل، والمثالية الأفلاطونية، والشريعة عند الإمام الخميني "قدس"، جميعها محاولاتٌ لإجابة السؤال الأزلي: كيف نُنظّم حياتنا المشتركة؟
حقيقة الحكم، كما تكشف هذه الرؤى، ليست في الشكل السياسي للدولة بقدر ما تكمن في قيمتها الجوهرية كضامنٍ للعدل والاستقرار. فالدولة الناجحة هي تلك التي توفّق بين سلطة الحاكم وحرية المحكومين، وتجمع بين المبادئ الأخلاقية والواقع العملي، سواءً أكانت سلطتها مستمدةً من العقل أو الوحي. وفي عصرنا الحالي، حيث تتعالى أصوات التنوع والصراعات بين النماذج السياسية، تظل هذه الأفكار مناراتٍ لفهم تعقيدات الحكم، ودعوةً لإعادة تخيل الدولة ككيانٍ إنسانيٍّ أولاً، قادرٍ على استيعاب التعددية دون التخلي عن جوهر العدالة الذي يجمع بين السماء والأرض.
***
المصادر والمراجع
المصادر الأولية:
1. أفلاطون:
- كتاب "الجمهورية" (ترجمة: حنان قصاب حسن). دار التنوير، 2020.
- "القوانين" (ترجمة: أحمد عتمان). الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993.
2. الإمام علي بن أبي طالب "ع":
- "نهج البلاغة" (تحقيق: صبحي الصالح). دار المعرفة، 2007.
- "عهد الإمام علي "ع" إلى مالك الأشتر" (شرح: محمد باقر الصدر). مؤسسة الأعلمي، 1985.
3. هيغل:
- "عناصر فلسفة الحق" (ترجمة: إمام عبد الفتاح إمام). المركز القومي للترجمة، 2012.
- "محاضرات في فلسفة التاريخ" (ترجمة: جورج كتورة). دار الطليعة، 1999.
4. الإمام الخميني "قدس":
- "الحكومة الإسلامية" (ترجمة: محمد علي التسخيري). مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني "قدس"، 2002.
- "صحيفة النور" (مجموعة خطب ورسائل). مركز نشر آثار الإمام الخميني "قدس"، 1995.
المصادر الثانوية (دراسات تحليلية):
1. دراسات حول أفلاطون:
- عبد الرحمن بدوي، "فلسفة أفلاطون". دار النهضة العربية، 1975.
- محمد حسن ظاظا، "الدولة عند أفلاطون بين المثالية والواقعية". مجلة كلية الآداب جامعة القاهرة، 2018.
2. دراسات حول الإمام علي "ع":
- مرتضى المطهري، "الحكومة في الإسلام" (ترجمة: حسن الجواهري). دار الهادي، 2003.
- جورج جرداق، "الإمام علي "ع" صوت العدالة الإنسانية". دار مكتبة الحياة، 1966.
3. دراسات حول هيغل:
- إمام عبد الفتاح إمام، "هيغل: فيلسوف العقلانية المطلقة". دار التنوير، 2015.
- شارل تايلور، "هيغل والحداثة" (ترجمة: حيدر حاج إسماعيل). منشورات الجمل، 2010.
4. دراسات حول الإمام الخميني "قدس":
- حسن حنفي، (الخميني "قدس": الثورة والدولة). دار الشروق، 1990.
- إبراهيم الداقوقي، "ولاية الفقيه بين النظرية والتطبيق". مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، 2015.
مراجع إلكترونية موثوقة:
1. مقالات أكاديمية:
- "الدولة المثالية عند أفلاطون: تحليل نقدي"، مجلة جامعة دمشق للعلوم الإنسانية، 2019.
www.damascusuniversity.edu.sy (https://www.damascusuniversity.edu.sy)
- "الفكر السياسي للإمام الخميني "قدس" في ضوء النظرية الإسلامية"، مركز الدراسات الإستراتيجية، 2021.
www.strategicstudies.com
(https://www.strategicstudies.com)
2. مواقع متخصصة:
- الموسوعة الفلسفية العربية (مادة: "الدولة عند هيغل").
www.arabicphilosophy.net
(https://www.arabicphilosophy.net)
- مكتبة نور الإلكترونية (كتب حول الفكر السياسي الإسلامي).
www.noor-book.com
(https://www.noor-book.com)
3. قواعد بيانات دولية:
- بحث بعنوان "العدالة في فلسفة الإمام علي (ع)".
www.jstor.org
(https://www.jstor.org)
- دراسة (تطور مفهوم الدولة من أفلاطون إلى الخميني "قدس").
scholar.google.com
(https://scholar.google.com)
كاتب وباحث لبناني