لبنانيات >أخبار لبنانية
سعر الصرف وسيناريوهات الحرب: هل تكفي الاحتياطات؟
سعر الصرف وسيناريوهات الحرب: هل تكفي الاحتياطات؟ ‎الأربعاء 7 08 2024 11:55
سعر الصرف وسيناريوهات الحرب: هل تكفي الاحتياطات؟

جنوبيات

منذ شهر آذار 2023، أي منذ سنة وأربعة أشهر، تمكّن المصرف المركزي من إرساء استقرار نسبي في سعر صرف الليرة اللبنانيّة، بعدما شهدت سوق القطع اضطرابات جنونيّة منذ تشرين الأوّل 2019. وهذا الاستقرار، هو ما مهّد لإجراءات نقديّة أخرى، مثل اعتماد سعر الصرف المستقرّ لإعداد ميزانيّات المصرف المركزي والمصارف التجاريّة، أو اعتماده كسعر واقعي لاستيفاء معظم الرسوم والضرائب. ببساطة، كان الاستقرار النقدي مجرّد تمهيد للبدء بتوحيد أسعار الصرف تدريجيًا، والتخلّص من غابة أسعار الصرف المتعدّدة التي حكمت المشهد النقدي منذ بداية الانهيار. وبهذا المعنى، لم تقتصر أهميّة الاستقرار النقدي على الجانب المتعلّق بالمستوى المعيشي، بل كان شرطًا لإصلاحات أخرى ضروريّة.

منذ بداية المواجهات في الجنوب في تشرين الأوّل الماضي، طُرحت همسًا الأسئلة حول قدرة المصرف المركزي على الاستمرار بفرض هذا الاستقرار النقدي، في حال توسّع الحرب. وخلال الأيّام الماضية، باتت هذه الأسئلة تُطرح بإلحاح، مع تزايد احتمالات هذه الحرب المفتوحة. إذ كما هو معلوم، ستفرض هذه الحرب اشتداد الطلب على العملة الصعبة، لتغطية نفقات استثنائيّة وداهمة، كما ستفرض حالة من الاضطراب النفسي في سوق القطع الموازية. فهل يملك مصرف  لبنان القدرة على ضمان سعر الصرف الثابت والمستقر هذا، في حال تحقّق أسوأ السيناريوهات الأمنيّة والعسكريّة؟ وما هي المقوّمات التي يراهن عليها لتحقيق هذا الاستقرار في المستقبل؟

معادلتي الاحتياطات والكتلة النقديّة
البحث عن القدرة على تثبيت سعر الصرف، أو الحفاظ على استقراره بالحد الأدنى ضمن هامش معقول، يدفع للسؤال عن معادلة العرض والطلب القائمة، ومن ناحيتين: كميّة النقد المتوفّرة بالعملة المحليّة، والذي يمكن أن يتحوّل إلى طلب على الدولار الأميركي. وكميّة الدولارات التي يملكها مصرف لبنان كاحتياطات، والمتاحة من أجل التدخّل في سوق القطع، وتأمين العرض المطلوب للحفاظ على سعر الصرف. كلما اتسع حجم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة، زادت احتمالات الضغط على سعر صرف الليرة، وكلما اتسعت كميّة الاحتياطات المتاحة للاستعمال من قبل المصرف المركزي، زادت قدرته على ضبط سعر الصرف.

الغوص في الأرقام، يُظهر لنا التالي: كميّة النقد المتداولة بالليرة خارج مصرف لبنان، أي في السوق، بلغت في أواخر الشهر الماضي 60.52 ألف مليار ليرة لبنانيّة، وهو ما تقارب قيمته –بحسب سعر الصرف الفعلي في السوق اليوم- 676.2 مليون دولار أميركي. وللمقارنة فقط، من المهم التذكير بأن حجم هذه السيولة كان قد بلغ في أواخر شباط 2023 رقمًا قياسيًا، ناهز حدود 83.29 ألف مليار ليرة. وهو ما يعني أنّ المصرف المركزي تمكّن منذ تلك المرحلة من امتصاص 27.33% من النقد المتداول بالليرة في السوق. ولعلّ العامل الأساسي الذي سمح بامتصاص السيولة على هذا النحو، كان تنامي معدلات الجباية الضريبيّة بالنقد الورقي، ومن ثم التقشّف في استعمال الإيرادات التي يجري تحصيلها.

في مقابل النقد المتوفّر بالليرة، تشير أرقام مصرف لبنان إلى أنّ حجم الاحتياطات السائلة المتوفّرة بالعملات الأجنبيّة بلغ في أواخر الشهر الماضي نحو 10.44 مليار دولار أميركي. وبطبيعة الحال، من الضروري الإشارة هنا إلى أنّ مصرف لبنان يقيّد كيفيّة استعمال هذه الاحتياطات، التي يرتبط الجزء الأساسي منها بالاحتياطات الإلزاميّة، التي أودعتها المصارف لدى المصرف المركزي، من أموال المودعين. أي بصورة أوضح، لا يملك المصرف المركزي القدرة على استعمال هذه السيولة من دون قيود لضبط سعر صرف الليرة اللبنانيّة أو الدفاع عنه، ولو في حالات الضرورة. وهذا ما أعلنته قيادة المصرف في عدّة مناسبات منذ رحيل الحاكم السابق رياض سلامة.

البحث عن الجزء القابل للاستخدام من هذه الاحتياطات يبدو صعبًا، لأسباب عديدة، من بينها عدم تمييز الأرقام المُعلنة من قبل المصارف ما بين الودائع القديمة والودائع بالدولار الطازج، لاحتساب حجم الاحتياطي الإلزامي. كما ثمّة ضبابيّة حول المفهوم القانوني لفكرة الاحتياطات الإلزاميّة، المنشأة بموجب تعاميم المصرف المركزي، والتي يفترض أن يُتاح تخفيضها أو رفعها بموجب تعاميم مماثلة (كما فعل أساسًا الحاكم السابق رياض سلامة بعد الأزمة). وعلى أي حال، وربما لهذه الأسباب بالتحديد، لم يقدّم مصرف  لبنان يومًا رقمًا واضحًا، يميّز فيه حجم الاحتياطات الإلزاميّة التي لا يمكن المساس بها، من أصل الدولارات الموجودة لديه.

ومع ذلك، يمكن احتساب رقم آخر مفيد لنا: من أصل الاحتياطات التي يملكها مصرف لبنان اليوم، بالعملة الصعبة، ثمّة 791.37 مليون دولار أميركي من الأموال التي تراكمت بعد منتصف شباط 2024، جرّاء شراء المصرف المركزي للدولارات من السوق الموازية. ولذا يمكن القول أن هذه الأموال بالحد الأدنى، لا علاقة لها بالاحتياطات الإلزاميّة، ويفترض أن يكون استخدامها متاحًا في عمليّات مصرف لبنان في السوق، تمامًا كما جرى جمعها من خلال هذه العمليّة بالذات.

أدوات الاستقرار النقدي
عند هذا الحد من البحث، نصل إلى الاستنتاج الأهم: قيمة الدولارات التي جمعها مصرف لبنان من السوق خلال الأشهر الخمسة الماضية، تفوق قيمة الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة اللبنانيّة. أو بصورة أوضح: يمكن لمصرف لبنان –إذا توفّر القرار بذلك- أن يلبّي الطلب على الدولار الأميركي حتّى نهايته القصوى، أي حتّى لو تحوّلت كل الليرات في السوق إلى طلب على العملة الصعبة، وذلك باستخدام الدولارات التي امتصّها المصرف مؤخرًا من السوق الموازية، ومن دون المساس بالاحتياطات الإلزاميّة التي كانت متوفّرة سابقًا لدى المصرف المركزي.

وهذه الحقيقة تؤشّر إلى التالي: إذا كان هناك قرار يقضي بالحفاظ على الاستقرار النقدي، يمكن فرض هذا الاستقرار على أيّ حال، وبمعزل عن درجة التوتّر العسكري القائم. غير أنّ هذه الفرضيّة تستلزم أيضًا الإلتفات إلى أنّ المصرف المركزي قد لا يتمكّن من حصر أولويّاته في المرحلة المقبلة بالحفاظ على التوازنات النقديّة في السوق، بمعنى أنّ حاجات الإنفاق العام قد تفرض نفسها أيضًا، بما يمنع الاستمرار بسياسة التقشّف القائمة حاليًا. وبهذا الشكل، سيكون على المصرف المركزي ووزارة الماليّة الموازنة بين أولويتين: استقرار سعر الصرف، وتأمين حاجات المؤسسات والإدارات العامّة.

أخيرًا، يبقى من المهم الإشارة إلى عوامل أخرى ستؤثّر في معادلة الاستقرار النقدي. إذ أنّ ارتفاع الطلب على العملة الصعبة خلال أي تصعيد عسكري محتمل، بفعل العوامل النفسيّة أو عوامل الحرب نفسها، سيقابله تراجع كبير في أوجه الإنفاق والاستهلاك غير الضروري، وهو ما سيعني انخفاض موازٍ في الطلب على الدولار. وهذا ما يعني أنّ ارتفاع الطلب الإجمالي على دولارات السوق الموازية لن يكون مسألة بديهيّة بالضرورة، بل قد يحدث العكس تمامًا.