في النصف الثاني من عقد الثمانينات أوصد مطعم فيصل قبالة المدخل الرئيسي للجامعة الاميركية في رأس بيروت (شارع بلس) أبوابه للمرة الاخيرة، انطفأت الأنوار في هذا المعلم التاريخي من معالم العاصمة وذاكرة قاطنيها او المارين بين كلماتها. بعده بقليل أعلن منح الدبغي عن قراره بإطفاء الانوار في مقهاه ذي الشهرة المدوية "الهورس شو"، وهو المقهى الأبرز من مقاهي شارع الحمراء التي فتحت مع افتتاح الشارع نفسه في أواخر الخمسينات.
وقبلهما كان اصحاب قهوة "الدولتشه فيتا" في آخر الروشة قد وضعواعلى مدخلها الحديد لافتة "آسفون لقد أقفلنا نهائياً".
لم يكن الأمر في ذلك الحين حدثاً عادياً يدرج في الخانة التجارية المحضة بل كان بمثابة طي يشبه النعي لصفحة مشرقة ونضرة من صفحات بيروت عندما كانت في وجدان كل عربي عاصمة العرب بلا منازع وموئل فكرهم ومصنع ثقافتهم ومقلع إشعاعهم الحضاري الذي أنارت خيوط فجره وحبال سناه دنيا العروبة كلها وأعطاها أملاً وأزاهيرَ وعد ومعنى مختلفاً.
لماذا استذكار الآن هذا الحدث الذي صار في ظهر الغيب، واستطراداً لماذا فتح صفحات الوجع الكامن في وجدان كل من عاصر بيروت وهي منارة تؤسس لنهضتها وكل من قدر له ان يتذوق من رحيق انتاجها الفوار اللامحدود؟ أو لماذا هذا الحنين على أطلال ماض تولى ويوشك أن يندرس؟
اعتبارات عدة جعلتنا نسترد صدى السنين الحاكي في سجل ذكريات بيروت التي جافاها يومها النوم وأبت عن عمد إلا أن تظل ساهرة تنتج افكاراً او تستهلك منتجاً فكرياً، وإن اخذتها غفوة فيظل الحلم بالغد الواعد حاضراً في سواد العين وفي عمق الوجدان ذي الربيع الدائم أسباب شتى أملت علينا ان نستعيد جزءاً من تاريخ المدينة التي وصفتها الناقدة المعروفة خالدة سعيد في كتاب قيّم صدر قبل أعوام يؤرخ لنهضة بيروت ولمرجعياتها ومؤسساتها الخمس التي تعتبر أنها ساهمت في هاتيك النهضة الغابرة بانها "المدينة المثقفة التي كانت حبلى دائماً بالوعود وأزاهير الأحلام".
في مقدم تلك الاعتبارات ان بيروت التي أعادت في مطالع عقد التسعينات الاعتبار لنفسها والوهج واللمعان لعدد من شوارعها عجزت عن انتاج شيء مماثل بروحية مماثلة. فتحت مقاه شتى في أماكن متعددة وربما اكثر عصرية وارحب لكنها قصرت عن استنساخ تجربة مطعم "فيصل" وتكرار حكايات مقهى "الهورس شو" وانتاج أجواء مشابهة لمناخات مقهى "الدولتشه فيتا" والحوارات والسجالات المعمقة التي دارت ذات عقد بين جنباته وعلى طاولاته البيضوية وكأنها تريد بشراستها وعنفها أن تحاكي موج البحر الهدار قبالتها تماماً.
لذا ما من مثقف أو فنان أو محترف سياسة لبناني أو عربي كتب له ان يعايش تجربة المقاهي الثلاث الا واستذكرها بعين دامعة وبنفس كسيرة أسفاً على تلك الايام الخوالي. استذكر الشخصيات والوجوه التي عبرت وتصدرت طاولاتها، وكانت كلمتها الفصل من المفكر الراحل قبيل فترة منح الصلح (البك) وباعث الافكار القومية الدكتور قسطنطين زريق الى الشاعر أنسي الحاج ورفاقه الشعراء والفنانين في "الهورس شو" يجلسون الى جانب رعيل السياسيين المخضرمين أمثال الرئيس حسين الحسيني والرئيس امين الحافظ والوزير جان عبيد الى السياسي العربي الكبير ميشال عفلق ورفيقه قبل ان يصبح خصمه صلاح البيطار نجمي "الدولتشه فيتا" الدائمين.
نستذكر "الجامعة العربية الحقيقية" كما يقول الزميل المخضرم الياس الديري عندما نسأله عن المطعم الأعز على نفسه إذ تحضر أمام ناظريه وجوه الشخصيات اللبنانية والعربية التي عبرت على ذلك المطعم وصارت في ما بعد تحتل اماكن ومواقع مرموقة في بلادها، وصارت صانعة سياسات وقرارات بعدما غرفت من معين بيروت الجامعة الاميركية وبعدما تزودت من معين الافكار التي كان يتداولها رواد ذلك المطعم ويعتبرون أنهم باطلاقها يؤدون قسطهم للعلى ويخدمون أمتهم حاضراً ومستقبلاً.
ولا ينكر زميلنا أن هؤلاء كانوا ابناء وجع والم ومكابدة، وكانوا جادين وهم يجنحون بعيداً في طموحاتهم الفكرية وفي رغبتهم برؤية أمتهم تتكامل وتتوحد ويستعيدون مجدها المسلوب، وأولاً استعادة فلسطينهم التي سلبت من بين ايديهم لتوها في ذلك الحين".
من مطعم "فيصل" انطلقت أحزاب. فعلى طاولاته أدار مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي انطون سعادة حوارات مع شبان وطلاب صاروا لاحقاً من تلامذته وأتباعه. ومن على كراسي المطعم غياه اطلق جورج حبش مع رفيقيه وديع حداد وهاني الهندي نواة "حركة القوميين العرب" التي نمت لاحقاً وكان لها شأن في العالم العربي.
وفي "الدولتشه فيتا" حيكت خيوط "مؤامرات" سياسية لقلب انظمة حكم، فاضطر الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر أن يقف في القاهرة وهو في ذروة مجده السياسي ليسمي المقهى بالاسم واصفاً إياه بانه "تحول وكر مؤامرات". فيما يروي صحافيو ذلك الزمن بأن عملاق العرب يومذاك كان يقرأ بتأن كل التقارير التي كانت ترسلها سفارته في بيروت عن حوارات "الدولتشه فيتا" وما يدور فيها من كلام هامس أو عال.
وفي" الهورس شو" جو آخر يجنح نحو الاهتمام بالشعر والنتاج الثقافي والمسرحي أكثر من الاهتمام بالجو السياسي. فالشعراء والكتاب والممثلون كانوا يصادرون طاولاته القليلة في الداخل وعلى الرصيف يعلنون ولادة شاعر او يقبلون انتساب مسرحي الى ناديهم. وفي الاجمال ما كان لنجم شاعر في الوطن العربي أن يعلو ويشع إذا لم تعمّده بيروت بماء شعرائها "وخميس" شعرها وبمجلة شعرها التي استولدها الشاعر السوري الأصل يوسف الخال تجربة رائدة ما زال صداها يتردد حتى اليوم .
تلك باختصار حكاية مطعم "فيصل" الذي أنشئ في أوائل الأربعينيات لكنه ارتقى وتطور ليتحول منتدى فكرياً مشعاً كما يقول الصديق الكبير الوزير والنائب السابق جان عبيد الذي يستثيره السؤال عن أيامه في هذا المعلم وعن الآكلين من صحنه اليومي ومن صحونه الفكرية والثقافية العامرة فيحلو له ان يتوقف أكثر ما يكون عند الشخصية الأطرف التي عبرت على موائد المطعم الصحافي الراحل الحاج زهير السعداوي ونوادره وطرائفه التي لا تحصى والتي كانت تخفف من حدة النقاشات والسجالات وتضفي مناخ فرح وأنس لا يعوض يوم كان للكلمة رونقها وعطرها الفواح وللفكرة أذنان تسمع وعقل منفتح على الحوار والاستنباط عند جيل كان همه إنهاض أمته.
وبعد، أَعلِمتم لماذا هذا الاستذكار والحنين الجارف في هذه اللحظة الى أماكن ليست ككل الأماكن، وإلى كلمات ليست بالضرورة ككل الكلمات؟