بأقلامهم >بأقلامهم
"العمر غفلة"!



جنوبيات
يمرّ العمر كغفوة قصيرة. تظنّ أنّك ما زلت في أوّل الطّريق، تمضي بخطى واثقة، تخطّط وتبني وتؤجّل، ثمّ فجأة... تستفيق لتجد أنّ السّنين مرّت، وأنّ الشّباب مضى، وأنّ القلب تعب.
نعم، العمر غفلة؛ غفلة من لحظة ولادتك حتّى تكتشف أنّ طفلك كبر قبلك.
غفلة من أوّل وظيفة حتّى تخرج إلى التّقاعد بدون أن تشعر أنّك عشت حقًّا.
غفلة من ضحكة الأمّ إلى غيابها، ومن دفء البيت إلى وحدته، ومن طمأنينة الصّحّة إلى أنبوب مصل وجهاز ضغط وأرقام تُراقب على شاشة.
العمر غفلة، حين نُصاب بدهشة من أشياء كان ينبغي أن تكون بديهيّة.
في زحمة الحياة اليوميّة، نُفاجأ بلحظات تختصر كلّ شيء. لحظات تصفعنا بحقائق نغضّ الطّرف عنها، وتكشف هشاشة الإنسان في أكثر حالاته ضعفًا.
هذه شهادة واقعيّة، لا هدف لها سوى دقّ ناقوس الضّمير.
فما هي الحكاية؟!
في أحد مستشفيات العاصمة بيروت، وقعت حادثة لا يمكن المرور عليها مرور الكرام. قاضٍ متقاعد، مشهود له بالنّزاهة والكرامة، أُدخل إلى العناية الفائقة بعد أزمة قلبيّة مفاجئة.
الطبيب المشرف على حالته من خيرة أطبّاء القلب، والمتابعة كانت دقيقة.
وفي اليوم التّالي، وبعد تحسن نسبيّ، سُمح له بتناول الطعام. دخلت إحدى الممرّضات إلى الغرفة مع صينيّة طعام وضعتها أمامه.
على الصّينية طبق مغلق، ورغيف خبز، ونصف ليمونة.
القاضي، بيده اليمنى المتّصلة بالمصل، وبيده اليسرى تحت جهاز قياس الضغط، فتح الغطاء بصعوبة، ليكتشف أنّ الوجبة الوحيدة المقدّمة له كانت علبة طون مغلقة، نعم علبة طون مغلقة.
لا شوربة، لا طبق دافئ، لا لمسة إنسانيّة. مجرّد علبة معدنيّة، باردة، كأنّها تعكس برودة التّعامل.
لحظة تأمّل:
كم من النّاس مرّوا بمثل هذا الموقف؟ وكم من المرضى – من دون شهود – يواجهون كلّ يوم هذا النّوع من "الرّعاية"؟
هل أصبحنا نعامل النّاس وكأنّهم أرقام سريريّة؟
هل فقدنا الحدّ الأدنى من الاحترام لمن قضى عمره في خدمة النّاس؟
هل أصبحت المهنة منفصلة تمامًا عن الرّحمة؟
من المسؤول؟!
لسنا هنا لتوجيه الاتّهام، بل لطرح السّؤال المشروع:
أين الرقابة؟
أين التّدريب؟
أين الالتزام بأبسط معايير الرّعاية والاحترام؟
عندما يُهان الإنسان في لحظة مرضه، يصبح الحديث عن “القطاع الصّحيّ” مجرّد شعارات.
عندما تُختصر وجبة مريض في علبة مقفلة، يُختصر معها ضمير غائب.
كلمة أخيرة:
العمر غفلة، نعم.
لكنّ الغفلة الأكبر هي أن نعتاد على الإهمال، ونصمت.
هذه ليست قصّة رمزيّة، بل حقيقة شهدتُها، وأرويها اليوم لا بحثًا عن ضجّة، بل إكرامًا لإنسان لم يجد حتّى وجبة لائقة وهو في أشدّ لحظات ضعفه.
لعلّ في النشر تذكرة، وفي التّذكرة حياة.
وإنّنا إذ نحتفظ بتفاصيل الحادثة لعلّ الإشارة إليها تحرّك الضمائر في زمن الخسائر...