بأقلامهم >بأقلامهم
لم نر الأصعب بعد
لم نر الأصعب بعد ‎الاثنين 5 07 2021 14:09 غازي العريضي
لم نر الأصعب بعد


الحرب التي اندلعت في لبنان عام 1975 كانت حرب الحروب. حروب الطوائف والمذاهب والأحزاب والميليشيات والدول وأجهزة المخــابرات العالمية والإقليمية والمحلية!! استخدمنا كل شيئ واستُخدمنا في كل شيئ فيها. تقاتلنا بالقنابل والمدافع والدبابات والصواريخ والقتل على الهوية والتهجير والتعليقات والتصريحات والخطابات النارية. انقسمنا على كل شيئ. وانقسمت مؤسسات الدولة بما فيها الجيش بعد محاولات متكرّرة من قبل المعلم الشهيد كمال جنبلاط لمنع حصول ذلك أو لتأخيره على الأقل رغم انحياز الجيش ضده في تلك المرحلة. كانت الحروب بشعة. مدمّرة. كثيرة المآسي والعبر ولا يبدو أن ثمة من اعتبر إلا ما تبقى من عقلاء أذكياء محترفين مخضرمين عددهم أقل من نصف أصابع اليد الواحدة. ورغم ذلك كان ثمة عوامل أساسية واضحة وثابتة: 

1 – لم ينقطع التواصل بين القيادات بطرق ووسائل مختلفة. لم يتوقف تبادل الآراء والرسائل في الداخل، وإذا تعذّر اللقاء هنا ذهبنا الى الخارج بالسر وبالعلن. لم يكن ثمة وسائل تواصل " ذكية " كما حالنا اليوم. كان الرهان على " الذكاء " الطبيعي. على حسّ المسؤولية والمبادرة. لطالما تمّ ترتيب وقف إطلاق النار من قبل اللجان الأمنية التي شكلت لضمان مرور رسول من هنا الى هناك أو العكس. يحمل رسالة أو فكرة أو اقتراحاً ليناقشه مع " الآخرين " بحثاً عن مخارج. لطالما كان وسطاء صادقون حريصون يشكّلون صلة وصل في الداخل. وكان يأتينا كثيرون من الخارج. ومن يمثلهم هنا من سفراء يقومون بدورهم ويزوّدونهم بالمعلومات قبل مجيئهم إلينا. كان لبنان الساحة الوحيدة لحرب الحروب. وبالتالي كان اهتمام الدول كلها به أو بها يحتل الأولوية. منطقتنا حسّاسة. بلدنا حسّاس بتركيبته الطائفية، بميزانه الدقيق الذي إذا انكسر لأي سبب من الأسباب عمّت الفوضى وانفتحت الساحة على كل الاحتمالات. واسرائيل عنصر أساس في المعادلة في معركة تثبيت الاحتلال، وتأمين الحماية، ولبنان على الحدود وعلى أرضه فلسطينيون اقتلعتهم اسرائيل من أرضهم ولا تريد إعادتهم، وتسعى الى تحويل المنطقة الى محميات انطلاقاً من لبنان من خلال مشروع التقسيم. في كل هذه الظروف والحروب كان التواصل قائماً بين اللبنانيين. اليوم، لا حرب داخلية.  استقرار أمني، ولسنوات طويلة لم يعد لبنان ساحة بل فتحت ساحات أخرى للحروب من سوريا الى العراق واليمن وليبيا والسودان. لا تواصل بين " المسؤولين ". لا حوار، بل أحقاد ونكد وقلة مسؤولية وانعدام وزن وخفّة واستخفاف ومصالح طائفية ومذهبية وفئوية وشخصية وولاءات مختلفة تتقدم على الولاء الوطني والمصلحة الوطنية. 

2 – في " عـزّ " الحروب كان ثمة توق وشوق الى الدولة التي استمرت مؤسساتها بالعمل. نعم استمرت وتمّ اختراع الكثير من الأفكار والحلول لتأمين الاستمرارية وتسيير شؤون الناس رغم إنقسام وإنغلاق المناطق على بعضها وقيام جيوش وسلطات محلية فيها. بالتجربة أقول : الضباط والعسكريون الذين التحقوا بالأحزاب كانت عيونهم على الدولة وعلى عودة مؤسساتها موحّدة. ضمانتهم هناك. مستقبلهم فيها. كذلك الموظفون الإداريون. والناس رغم انحيازهم لهذا الفريق أو ذاك كانوا يتطلعـــون الى يوم قيام الدولة. المؤسسات استمرت بالعمل رغم الحروب. لم يكن ثمة جوع. وكل ما شهدناه من " ذلّ " لا يقاس بما نراه اليوم للأسف. بالتأكيد لا نريد الحرب لكن ما نعيشه حرب أخطر بكثير مما عشناه. لم نصل خلال الحرب الى 3 أسعار للكهرباء، وتعرفة النقل وكهرباء المولدات، وربطة الخبز، والعملة الوطنية قياساً على الدولار، رغم معالم الانهيار التي بدأت آنذاك، لم نصل الى فقدان القرطاسية والطوابع لإنجاز معاملات الناس، لم نفقد الأدوية والبنج لإجراء العمليات في المستشفيات، ولم نر هذا الفلتان والفوضى في التهريب، وتعامل شركات التأمين مع المتعاملين معها. لم نر هذا الفلتان الذي نراه اليوم في المصارف " وشفطها " أموال المودعين، مع مسؤولية المصرف المركزي ومؤسسات أخرى في الدولة. 

في حرب الحروب استمر العمل في مؤسسات الدولة. وكان الناس يتطلعون الى عودتها بفعالية أكبر وحضور شامل على المستوى الوطني اللبناني. اليوم : لا حروب وهذا هو واقعنا. البلد ينهار. مهدّد بالزوال. مشاهد الذل تكفّر الناس ويبدو أننا في بداية طريق ستكون آلامه ثقيلة علينا ولم نر الأصعب بعد!! والممسكون بزمام الأمور بلا إحساس. بلا ضمير. بلا وجدان. يستخدمون الآلام في وجه بعضهم ويدفّعون الناس الثمن،  ويدمّرون لبنان الكبير في مئويته الأولى ويفاخرون بإنجازاتهم وتاريخهم وسلوكهم وصفاتهم التمثيلية!! 
3  - في حرب الحروب كان ثمة " بحبوحة ". لم يشعر الناس " بالضيق " الذي هم عليه الآن. كان ثمة تمويل للحرب، كان لها اقتصادها ومؤسساتها في المناطق المنقسمة على بعضها. وكان الخارج يعرف ذلك. الخارج الذي كان يموّل " أمراء الحرب " كما كان يسميهم يهدّدهم ويتوعّدهم اليوم. " والخارجيون " مع كل " الخوارج " كانوا يلعبون على أرضنا ويتلاعبون بالبلد. اليوم، ثمة حرب من نوع آخر تشنّ. في حرب الحروب انخرط اللبنانيون فيها وتلاعب الخارج. لم ندرك مسؤوليتنا الوطنية ونعالج مشاكلنا الداخلية. اليوم حرب الخارج لأسباب تعني كل طرف فيه، ولكن نحن نحن. لا ندرك المخاطر ولا نرتقي الى مستوى المسؤولية والأمانة في التصدي لها ويذهب بعضنا في أحقاده الى الانخراط في هذه اللعبة عن وعي أو غير وعي. 

باختصار، أرى الأمور وكأننا في المرحلة الأخيرة من حرب ال 75. للبحث صلة في هذا الأمر. لكن تبقى ملاحظتان: 

1 – الذي يقول أنه تعلّم من الحرب ولا يريدها ويتصرف بحقد وينغمس في الحرب الجديدة التي تهدّد الكيان كله ودوره ومستقبله وفكرته يوهم نفسه ويضلّل الناس. 

2 – في زمان " الوباء " ومتحوّراته، نحن أمام مسؤولين لا مثيل لهم، مؤتمنين على تشكيل الحكومة والمصير الوطني، مصابين بأمراض مزمنة مستعصية في عقولهم ونفسياتهم، لو توفرت لهم كل أنواع الأدوية وأعلى مستويات الدعم لها لما صحّوا.. 
إنها حالات ميؤوس منها!!

*وزير ونائب سابق

المصدر : جنوبيات