بأقلامهم >بأقلامهم
علي بصّار سائق تكسي من عطر أبي
جنوبيات
غادرنا ليل أمس إلى جوار ربّه الحاج علي محمّد بصار “أبو محمّد”، بعد عمر حافل بالطيب والنضال المعيشيّ خلف مقود سيّارة، “شوفيرًا” دائمًا على خطّ كفرّرمان- النبطيّة، وفي أحيان متقطّعة على خطّ صيدا- بيروت. كان سائق سيارة أجرة تمامًا مثلما كان أبي “أبو محمّد” الذي رحل منذ 22 عامًا، وكان أبي من جيل “أبي محمّد بصّار”.
علي بصّار، الأسم الأكثر تداولًا بين سائقي كفررمان، وكان في طليعة من اقتنى سيارة أجرة وراح ينقل الركاب من كفررمان إلى النبطية، أو العكس، لا أدري إن أراح أكثرهم ممن يقطع المسافة سيرًا على الأقدام من وسط كفررمان بمسافة أربعة كيلومترات، أو ينتقلون إليها فوق الدواب، لكن من المؤكد أنه وفر عليهم الكثير من الوقت لقضاء مشاويرهم المهنية والحرفية والتموينية، إذ لم تكن بعد قد انتشرت في كفررمان الدكاكين والأفران والملاحم (دكاكين القصابين) والمؤسسات التجارية حتى باتت تضاهي النبطية في اتّساع أسواقها التجارية.
الحاج علي محمّد بصار “أبو محمّد”
كان أبو محمّد رجلًا “آدميًّا” يحبّ أهل قريته ويبادلونه الودّ، لكنّهم راحوا يتوزّعون بين سائقين آخرين، بعد انتشار العديد من سيّارات الأجرة في كفرّرمان، من الروّاد الأوائل، وصلت إلى حدّ عشر سيارات، رحل أصحابها جميعهم وكان علي بصّار أوّل الأسماء العتيقة وآخرها، وحامل ذكريات المهنة المتعبة.
رحل أبو محمّد عن 96 عامًا وعن ذاكرة بقيت وقّادة حتّى الرمق الأخير، قبل أن تزلّ به القدم ويعاني من كسر في الورك، وهو بقي يقود سيّارته ويمارس مهنته إلى عمر 93 عامًا، أيّ أكثر من سبعين عامًا، جاب في خلالها أرجاء الوطن كلّها، وعلى خطّ الشام (دمشق) وصولًا إلى العراق حيث كان ابنه البكر “محمّد” المتخصّص في العلاج الفيزيائيّ يتابع دراسته هناك.
وكان كذلك سائقًا فدائيًّا في أثناء الحروب المتعددة والمختلفة التي مرّت على لبنان، بين أزقة بيروت التي عاشت تفاصيل الحرب الأهليّة منذ العام 1975، عام انطلاق شرارتها، وبين كفرّرمان التي تعرّضت لقصف عشوائيّ من مواقع العدوّ الإسرائيليّ المطلّة عليها، استمر سنوات طويلة وسقط في خلالها العشرات من الشهداء المظلومين، ونجا في خلالها علي بصّار ورفاقه بأعجوبة أكثر من مرّة.
يرقد أبو محمّد علي بصّار اليوم إلى جوار أحبّته في تربة كفررمان، زوجته وحفيدته وأشقائه، وزملاء المهنة ممّن دمغوا خطواتها الأولى بالهمّة والنشاط والأمانة والصداقة، وحفظ الأسرار التي كانت تدور في هذه الحجرة (الصندوقة) الضيّقة التي تدعى سيّارة، ولساعات طويلة في كثير من الأحيان.