بأقلامهم >بأقلامهم
هل تسعى حكومة الاحتلال إلى زعزعة الاستقرار على الحدود اللبنانية - السورية؟
جنوبيات
بدأت تتكشف تدريجياً نتائج الزلزال الجيوسياسي الذي هزّ دول المنطقة كافة، على الرغم من أنّ ارتداداته السياسية والعسكرية والأمنية ما زالت تتوالى فصولاً سوداء مُبهمة، وسط التسليم الدولي المطلق بالهيمنة الأميركية - الإسرائيلية على الشرق الأوسط، بعد أن كرّس العدو نوعاً جديداً من أنواع "الإرهاب الدولي المنظم" وعلى مستوى عالي الخطورة، يكمن ليس في سيطرة جيش الاحتلال على قطاع غزة وإقفال حكومة العدو نهائياً لملف حلّ الدولتين فحسب، وليس في احتلاله لجزء من الأراضي اللبنانية الحدودية، وما يقابله من انحسار لدور المقاومة الإسلامية مع شلل في الأداء الرسمي للحكومة اللبنانية فحسب أيضاً، وليس في تدميره لترسانة الجيش العربي السوري عقب سقوط نظام الأسد، وانتهاكه لسيادة النظام الجديد بعد توغله في الأراضي السورية فحسب أيضاً، إنما يكمن في فرضه لنظام أمني وعسكري جديد بدءاً بفلسطين المحتلة، فلبنان وسوريا مع احتمالية شموله لليمن فالعراق وايران، وهو نظام لم يُعرف له مثيل في تاريخ الحروب والنزاعات بين الأمم، نظام يقوم على "استراتيجية مكيافيلية"، يُطلق عليها العدو مسمى "حرية التحرك"، بمعنى آخر أنه لا سلام دائم لدول المنطقة، بل هي هدنة مقرونة باستمرارية "الحرب المحدودة" ضد هذه الدول، يسمح من خلالها لقواته البرية والبحرية والجوية بالتدخل أين ومتى وكيف تشاء، كل هذا في ضوء الهزيمة الجيواستراتيجية لمحور المقاومة. من هذا المنطلق بات لزاماً على قادة المحور، العمل لإعادة التموضع دولياً وإقليمياً ليس لجهة الثوابت الأيديولوجية الدينية إطلاقاً، إنما لجهة العمل على فصلها عن الأداء السياسي العام، وبدء التعاطي ب"برغماتية" واسعة مع الملفات الساخنة بين الدول المعنية بما فيها الولايات المتحدة الأميركية، خاصة بعد أن حُشرت "الأقليات" ضمن زاوية الخطر الوجودي، في ظل المتغيرات الإقليمية الجديدة، وتداعياتها على الاداء العام للدول والتنظيمات ذات الصلة بهذا المحور، للأسباب التالية:
1. انعدام التوازن السياسى الاستراتيجى بمواجهة العدو الاسرائيلي الذى تمثل فى سوريا منذ العام 1948. فسوريا اليوم دولة مفتتة، لم تعد موجودة ككيان جيوسياسى، ففى الشرق، تستولى القوات الكردية (بدعم عسكري أمريكي) على موارد النفط والزراعة. وتنخرط القوات التركية ووكلاؤها فى محاولة لسحق الجيب الكردي تمامًا. وفى الجنوب الغربي، استولت الدبابات الإسرائيلية على الجولان وأراضيها حتى مسافة 20 كيلومترًا من دمشق. وفي الوسط وعند الساحل تتحكم جماعات مسلحة متفلتة، تنفذ أعمال انتقامية ضد الأقليات.
2. بعد صمودها لحوالي العقدين، فضّ العدو الاسرائيلي "قواعد الاشتباك" التي ارستها المقاومة الاسلامية ضده منذ العام 2006 (حرب تموز)، وحتى تاريخ 2 يناير 2024 عقب عملية اغتيال "صالح العاروري" في ضاحية بيروت الجنوبية. حيث حاولت المقاومة من بعدها جاهدة على استعادتها فلم تفلح بذلك، إذ تهاوت هذا القواعد بسرعة دراماتيكية في ظل الانتكاسات الأمنية المتلاحقة التي أصابت المقاومة في الصميم. بعد كل هذا بات "حزب الله" اليوم مطالباً من بيئته أولاً وآخراً بإجراء تحقيق داخلي في أسباب الهزيمة الاستراتجية وإعادة تقييم شفاف لنتائج هذه الحرب، بغية الخروج برؤية جديدة تواكب مرحلة الانقلاب الجيوسياسي للمنطقة، وتتماهى مع بيئته المُنهكة في الأساس والتي لا زالت تُلملم أحزانها وآلامها من تحت الركام.
3. المراوغة التركية وكذبها على إيران ودول الخليج بشأن طبيعة ما كان يُجرى التخطيط له في سوريا، مما يضع كل من إيران - العراق- السعودية- مصر- الإمارات والأردن في سلة القلق المشترك، وذلك من عودة ظهور تنظيم داعش، أو حتى من جماعة الإخوان المسلمين في سوريا. بالتالي قد يدفع دول الخليج إلى التقرب أكثر من إيران. فضلاً عما ستتعرض له قطر، التى تدعم مع تركيا الفصائل المسلحة، مرة أخرى للعزل من جانب زعماء دول الخليج الأخرى.
4. الصفقة الروسية - الأميركية التي باتت واضحة المعالم، في أن تتنازل أوكرانيا عن مساحات شاسعة لموسكو لقاء ضمانات أمنية، مقابل التخلي عن نفوذها في سوريا، على أن تبدأ في إخلاء قواعدها العسكرية في سوريا، لكن إلى أين؟ فهل تنتقل القوات الروسية إلى ليبيا؟
5. بما أنه من الصعوبة جدا على الكيان الصهيوني ضرب المفاعل النووية الإيرانية كونها موزعة على جغرافية واسعة، فضلاً عن عدم امتلاكه أصولاً جوية قادرة على حمل قنابل خاصة لضرب منشآت تحت الأرض، وبأعماق كبيرة ومحصنة، حيث بإمكانه فقط ضرب منشآت ثانوية متعلقة بالبرنامج النووي (منشآت إسناد للمشروع). وبما أن القنابل التي يحتاجها الكيان لضرب أماكن محصنة "MBO" تزن الواحدة منها 14 طناً لتخترق 40 مترا تحت الأرض، لا يمكن حملها إلا بواسطة القاذفات الاستراتيجية الأمريكية B1 B2، وبما أن إدارة الرئيس "جو بايدن" كانت قد تقبلت شن إسرائيل هجوماً كبيراً على إيران في أوائل شهر أكتوبر المنصرم وحكماً بدعم عسكري أمريكي، وبما أن تسارع الأحداث بين بدء العدوان الصهيوني على لبنان وفوز "دونالد ترامب" وسقوط النظام في سوريا، قد أخّرت توقيت هذه الضربة، بانتظار تسلم الرئيس الأميركي العتيد لمهامه. أصبح القرار في هذا الشأن اليوم بيد "ترامب"، فهل يفعلها ويعطي الضوء الأخضر لاسرائيل بتوجيه ضربة قوية لإيران؟ أم يكتفي بتفعيل العقوبات الاقتصادية المفروضة أساساً عليها؟ وفي المقابل، هل تفتح إيران حواراً جدياً ومباشراً مع الإدارة الأمريكية الجديدة في ظل التحديات الراهنة في المنطقة؟ وهل تلتحق ب"الدب الروسي" في عقد صفقة ما على حساب إدخال تعديلات اصلاحية في نظامها الداخلي؟
فى كل الأحوال، تبقى مسألة الهيمنة على الطاقة هي المحرك الأساس لاستراتيجيات الدول الكبرى في الشرق الأوسط وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية. وذلك على الرغم من كل الأحاديث عن صفقات محتملة قد يعقدها "ترامب" مع إيران. وعلى الرغم من تأخيره للضربة الصهيونية ضدها. يبقى أنه من المبكر للغاية الجزم فيما إذا كانت هذه الصفقة سوف تتحقق أم لا؟ لكن من الثابت أن لا مصلحة إسرائيلية في التقارب الأميركي الإيراني. ناهيك عن أن الفكر التوراتي التوسعي متجذر في حكومة العدو الحالية، التي ما زالت تحتفل بانتصاراتها لليوم، وخصوصا على سوريا، بعد أن استولت على أذهان العدو صورة من الكتاب المقدس العبري "التناخ"، تم توزيعها في موقع الأنبا تكلا: تشمل "خريطة" توضح المعارك التي خاضها "داوود" (صموئيل الثاني 8: 1-13)، حيث تلحظ محور المهاجمة الذي قيل أن "داوود" قد تقدم عليه فيما مضى داخل سوريا. فهل سيسير جيش الاحتلال مجدداً على محور المهاجمة ذاته؟ وهل ستسعى حكومة الاحتلال إلى زعزعة الاستقرار على الحدود الشرقية بين لبنان وسوريا في ظل أعمال القتل المذهبي والتطهير العرقي التي تمارسها الجماعات السورية المسلحة؟ وما هي علاقتها بجيش العدو الذي اصبح على مسافة كيلومترات معدودة من معبر المصنع الحدودي بين لبنان وسوريا؟ كلها أسئلة تكمن أجوبتها فيما يجول داخل رأس "نتانياهو" الذي يعتبر نفسه المنتصر الأول في المنطقة و"داوود" القرن الحالي…