لبنانيات >أخبار لبنانية
حلّ معضلة إيجارات الأماكن غير السكنية يكون بإنصاف المالكين لا بالتآمر على المستأجرين


جنوبيات
ليست المرة الأولى التي يُقرّ فيها قانون ويصبح نافذاً وعند حلول موعد نفاذه يتبيّن أنه يحتوي بين ثناياه بنوداً تعطيلية، أو تحجم السلطة التنفيذية عن إقرار المراسيم التنفيذية لكون نص القانون المُعتمد جائر أو غير مناسب لواقع الحال في لبنان أو لكونه لا يلبّي الغرض المرجو منه أو لتعارضه مع المصلحة العامة أو لكونه ينطوي على مظالم لفئات من المجتمع لصالح فئات أخرى، أو لأن المحاكم غير قادرة على الفصل في القضايا التي يثيرها خلال مهل معقولة.
أما في ما خص قانون الإيجارات للأماكن غير السكنية فيبدو أن النواب الكرام لم يتنبّهوا من تجاربهم السابقة لمغبة إقرار قوانين أو تعديلها بصورة ارتجاليَّة، كما حصل في قانون السير وقانون وتعديل قانون أصول المحاكمات الجزائيَة، ولا حتى استقراء العِبر من قانون الإيجار لعام 2019 الخاص بالأماكن السكنية، حيث نص في مادته الثالثة على إنشاء صندوق خاص في وزارة المالية تُخصص أمواله للتعويض على المُستأجرين من ذوي الدخل المحدود الذين يضطرون إلى إخلاء مسكنهم المستأجر بحكم القانون المنوّه عنه، والذي نص على تشكيل لجان تنظر في تطبيق الأحكام المُتعلقة بدفع الزيادات على بدلات الإيجار، ورغم ذلك لم تشكّل اللجان لغاية اليوم ويبدو انها لن تشكّل، ولم يزل الصندوق المنوّه عنه مُعطّلاً رغم رصد مبلغ 200 مليار ليرة لتمويله، الأمر الذي أدّى إلى إغلاق الملفات التي أحيلت إلى اللجان، هذا عدا عن ان غالبية دعاوى الإيجارات لم تزل عالقة أمام المحاكم بسبب تعطيل القانون في جزئية التخفيف عن فقيري الحال والتي تنطوي على انعكاسات اجتماعيَّة خطيرة.
في الواقع إن قانون الإيجارات للأماكن غير السكنية الذي نحن بصدده ينطوي على مخاطر جسيمة متشعبة، يبدو أنها لم ترد في ذهن النواب الذين وافقوا عليه بصيغته الحالية، لأسباب عدة منها: عدم الموازنة ما بين مصالح وحقوق طرفي عقد الإيجار، إلّا أنه قبل تطرّقنا للجوانب الموضوعية التي تثير إشكاليات عدَّة لفتنا ما ورد في مادته الأخيرة والتي تحدد بدء العمل به فور نشره في الجريدة الرسميَّة، وكأني بالسادة النواب تعمّدوا تهريب القانون مسايرةً للمالكين متبنّين مقترحاتهم من دون أن يكلّفوا أنفسهم عناء الوقوف على رأي المستأجرين أو مجرد إعارة الاهتمام لما قد تؤول إليه أوضاعهم، وعلى وجه الخصوص أصحاب المؤسَّسات الاقتصادية التي تتمتع بخصوصية لجهة الموقع الجغرافي والزبائن واللذين يعتبران عنصرين أساسيين من عناصرها، فكيف الحال بالنسبة للصيادلة الذين يحدّد القانون مسافات فاصلة إلزامية بين صيدلية وأخرى.
لقد أثار القانون فور إقراره في مجلس النواب بتاريخ 15/1/2023 موجة استنكار عارمة لدى مُستأجري هذا النوع من العقارات بموجب عقود إيجارات قديمة، والتي كانت تنتقل من مُستأجر إلى آخر بعد دفع المُستأجر لسلفه مبلغاً مرقوماً «يعرف بالخلو» هذا بالإضافة لرفع بدل الإيجار بنسبة معينة، الأمر الذي دفع بدولة الرئيس نجيب ميقاتي بصفته رئيسا لمجلس الوزراء إلى الإمتناع عن نشر القانون في الجريدة الرسميَّة بعد صدور قرار بعدم نشر القانون وإعادته لمجلس النواب لمزيد من الدرس، بعد أن آلت صلاحية رد القوانين ونشرها إلى مجلس الوزراء بحكم الدستور «نتيجة الشغور الرئاسي»، وعليه أعيد القانون إلى مجلس النواب بموجب المرسوم رقم 12835 تاريخ 12/1/2024، إلّا أنه طعن به، وقرر مجلس شورى الدولة قبول الطعن ووقف تنفيذ المرسوم الذي رُدَّ به القانون للمجلس النيابي، ما دفع بدولته لتوجيه كتاب إلى مجلس النواب يطلب فيه إيداعه النسخة الأصلية من القانون لنشره، إلّا أن رئاسة المجلس لم تجب الطلب إلّا بتاريخ 23/3/2025 أي بعد انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل الحكومة الحالية، وعليه نُشر القانون بتاريخ 5 نيسان 2025 وفق الأصول، وأصبح نافذاً منذ نشره.
هذا القانون بحالته الحالية لم ينصف المالكين ماليًّا وإن رحّبوا بإقراره وينطوي على افتئات كبير على المستأجرين الذين رأوا فيه جنوحا غير مبرر من السلطة لجانب المالكين، لعدم مراعاته لمصالح وحقوق كلي الطرفين المعنيين. وهذا الأمر مدعاة للعجب من دولة تقف مكتوفة اليدين متفرجة على ما كان يثيره قانون الإيجارات السابق ما بين المالك والمستأجر لعشرات السنوات من مشاكل، وفجأة تستفيق من سباتها لتعالج المسألة بشكل مأساوي متبنّية مقترحات المالكين، فتنقل الظلم من الطرف الأول لترميه على كاهل الطرف الآخر، ولم تتنبّه لما قد يثيره من أزمات قضائيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة ومهنيَّة أكثر تعقيداً من تلك التي تعتقد أنها وفّرت حلاً لها.
لقد تسرّعت الدولة بسلطتيها التشريعية والتنفيذية بتبنّيها حلّا ملتبسا ومنحازا لموضوع إيجارات الأماكن غير السكنية، إذ لم يوفر إطاراً صحيحاً لحلّ الخلافات ما بين المالكين والمستأجرين بالتراضي، وبالتالي ستغرق محاكم الإيجارات بالدعاوى، هذا إن لم يتسبب في خلافات شخصية بين طرفي كل عقد من العقود، وبالتالي لن يكون بمقدور المراجع القضائية المختصة الفصل
في ما قد يتأتّى بصدده من نزاعات، ولن تتمكن من البتّ بطلبات التخمين ودعاوى الفصل في أساس النزاع ضمن المهل المحددة في متنه، ويعزى ذلك للنسبة العالية في إيجارت الأماكن غير السكنة المؤجرة بموجب عقود قديمة لا يسري عليها مبدأ حريَّة التعاقد بين الطرفين. كل ذلك يوجب تدخّلاً تشريعيًّا سريعاً وقبل فوات الأوان.
حسنة هذا القانون تكمن في أنه ليس بحاجة لمراسيم تطبيقية أو تدخّل أية جهات غير قضائية فيما لو استثنينا الدور الملقى على عاتق وزارة المالية لجهة تخفيف الأعباء الضريبية على مالكي الأماكن التي يرعاها هذا القانون المتوجبة عليهم عن الإيجارات لمدة عشر سنوات، كما في تحرير عقود الإيجارات بعد فترة سنتين كحد أدنى، أربع سنوات كحد أقصى. بحيث أجاز للمالك إنهاء العقد من طرف واحد بعد سنتين بمجرد عدم دعوته المستأجر للتفاوض على المأجور وإن كان قد اشترط الإبقاء على ذات قيمة الإيجار؛ وفي هذه الحالة يكون المستأجر ملزماً بإخلاء المأجور بعد انتهاء المدة وإلّا اعتبر بقاؤه فيه من دون مسوغ شرعي، كما أجاز له دعوة المستأجر للتفاوض لتحديد بدل المثل، بحيث يرفع بدل الإيجار المعمول به عند إقرار القانون بنسبة 25% من بدل المثل (الذي يتم الاتفاق عليه بين الطرفين أو بقرار من المحكمة على ضوء تقرير خبير) بالنسبة للسنة الأولى لنفاذ القانون، و50% عن السنة الثانية، وإلى 100% عن السنتين الثالثة والرابعة. وبدلاً من تبنّي الفانون حلّاً يقوم على مبدا الإنصاف والعدالة، يوازن ما بين الطرفين المعنيين جاء كاستجابة للمالكين على حساب المُستأجرين، وهذا ما دفع الأخيرين إلى رفضه بصيغته الراهنة.ثمة مآخذ كثيرة ينطوي عليها هذا القانون نكتفي بالإشارة إلى أهمها:
أ- لم يأخذ واضعو القانون بعين الاعتبار الأوضاع الاقتصادية والسياسية المتردّية التي استفحلت في السنوات الأخيرة وبخاصة بعد الأزمة المصرفية وانهيار العملة الوطنية، ولكونه لم يوفر للمستأجر مهلة كافية لترتيب وضعه وتيسير شؤونه المالية تمهيد للبحث عن عقار جديد يستوفي المواصفات المطلوبة ليستأجره، أو لتامين مكان بديل لمزاولة عمل مؤسسته أو مختلف النشاطات الصناعية أو التجارية التي يقوم بها في المأجور الذي يشغله، وهذا سيؤدي حتما إلى إخلاء آلاف المؤسسات الاقتصادية للأماكن التي تشغلها بعقود إيجار مجددة (قديمة) وسيتسبب في إقفال الكثير منها نتيجة ارتفاع بدلات الإيجار وارتفاع في معدل البطالة.
ب- عدم تعويض المالك عن الإجحاف الذي لحق به خلال العقد الماضي والاستعاضة عنه ذلك بالمبالغة في تحديد النسبة المُعتمدة لاحتساب الزيادة على بدل الإيجار بحيث تم تبنّي نسبة 8% من بدل المثل في حين أن النسبة المعتمدة عالميا تتراوح ما بين 2 و3% منه.
ج- عدم اعتماد التدرّج في احتساب نسبة الزيادة السنوية خلال السنوات التي تسبق تحرير التعاقد، بحيث اعتمدت نسبة 25% للسنة الأولى و50% عن السنة الثانية وفوراً نسبة 100 عن السنتين الثالثة والرابعة، إذ كان يفضّل اعتماد نسبة 75% عن السنة الثالثة و100 للسنة الرابعة.
د- عدم إعارة الاهتمام لبعض المهن الحرَّة التي يوجد ضوابط لمُمارستها بموجب قوانين خاصة ترعاها، وخير مثال على ذلك مهنة الصيدلة حيث يفترض القانون الخاص بمزاولة المهنة للترخيص بصيدلية احترام المسافات بين الصيدليات بحيث لا تقل عن 300، كما بألَّا تقلّ المساحة الداخلية عن 41 م2، هذا بالإضافة إلى توفّر مستلزمات أخرى كفيلة بالحفاظ على سلامة الأدوية من حيث الرطوبة والحرارة وبعيداً عن أشعة الشمس.
هـ- لقد حصر القانون بالمالك مسألة إنهاء العلاقة التعاقدية وتقرير المدة التي يتوجب فيها على المستأجر إخلاء المأجور، بحيث يمكنه إنهاء العقد بعد سنتين من تاريخ نفاذ القانون وذلك بمجرد إعلامه المستأجر صراحة أو ضمنيا (بمجرد عدم توجيه طلب للمستأجر للتفاوض حول بدل الإيجار)، وخلال 4 سنوات في حال عرض على المستأجر الإستمرار بشغل المأجور لمدة 4 سنوات شرط التزام الأخير بالزيادة التدريجية التي لحظها القانون وعلى ضوء تحديد بدل المثل بالتوافق أو بالعودة للمحكمة.
و- إتاحة الفرصة للمالك بالعودة لدائرة التنفيذ في حال تمنّع المستأجر عن إخلاء المأجور بعد مرور أربع سنوات على بدء سريان القانون، والتي تلزمه بإخلاء المأجور باعتباره شاغلاً له من دون مسوغ شرعي.
ز- عدم الأخذ بعين الاعتبار لتدابير السلامة العامة والصحة العامة التي تفرضها بعض القوانين والقرارات الإدارية كما هو الحال بالنسبة للمؤسسات السياحية والمطاعم والمقاهي والنوادي الترفيهية، الخ...
ونخلص من كل ما تقدّم إلى توجيه دعوة صادقة وملحّة لأعضاء مجلس النواب للمبادرة وعلى وجه السرعة إلى إقرار تعديلات من شأنها أخذ الملاحظات التي أشرنا إليها بعين الاعتبار ومعالجتها على نحو يضمن الموازنة ما بين مصالح طرفي عقد الإيجار بما في ذلك رغبة كل منهما في تقرير أي من المهلتين اصلح له لإنهاء العقد، كذلك مراعاة خصوصيَّة بعض المهن والحرف وأوجه النشاط الذي تزاوله
بعض المؤسسات التجارية والصناعية والسياحية وغيرها، وذلك لتلافي أزمات شائكة ومتشابكة أكثر تعقيدا من عقود الإيجارات.