بأقلامهم >بأقلامهم
بالنظام - اللامركزية الثقافية
جنوبيات
حين تزور منطقةً من مناطق لبنان المشهورة بالحرمان التاريخي المزمن من الخدمات والإنماء، كمحافظة عكار، وترى الطبيعة والموارد التي لا تزال تتمتع بها رغم وجود بعض مظاهر العمران العشوائي والاعتداء غير القانوني على البيئة، تكتشف بأن احتفاظها بهذه الميزات مردّه إلى عدم شمول الدولة لهذه المناطق باهتمامها وليس العكس. وهذا الانطباع يمكنك تكوينه بالمقارنة مع المناطق الأقرب إلى العاصمة التي لم تنل من الإنماء سوى البناء الكثيف غير المنظّم الذي حوّل الأحراج والجبال والوديان إلى غابات اسمنتية.
في عكار، التي يضرب بها المثل في مستوى الإهمال الحكومي، لا بد لك أن تشكر العناية الإلهية لأن الحكومة لم تتمكن في العام 2016 من فرض مشروع المطمر الشهير الذي كانت تنوي إقامته في منطقة "سرار" لحلّ مشكلة النفايات التي أغرقت الشوارع في ذلك العام. وعندما تمرّ في تلك المنطقة من سهل عكار صعوداً إلى الدريب بمحاذاة مجرى النهر الكبير الحدودي لا بد لك أن تتمنى بقاء ذلك النوع من الاهتمام الحكومي بعيداً عنها لعلها تُحفظ بيئة خلابّة نقيّة إلى أطول مدّة ممكنة.
في عكار أيضاً لا بد لك أن تتذكّر مقولات من نوع "الإنماء المتوازن" الذي تحدثت عنه وثيقة الوفاق الوطني ومقدمة الدستور المضافة في العام 1990 والذي تمّ استهلاكه في الخطاب السياسي منذ ذلك الحين. والتوازن تعبير يختزن الرغبة بالتحاصص الفئوي أكثر مما يفيد الشمول الإنمائي والعدالة الاجتماعية، لكن على رغم علله وضعف مقاصده لم ترَ المناطق اللبنانية المحرومة شكل هذا التوازن. كما أن المشترع لم ينجح حتى الآن في إقرار قانون للامركزية رغم مرور خمس وثلاثين عاماً على إقرار وثيقة الوفاق الوطني التي تضمنت بنداً مفصّلاً يتعلق بموضوع اللامركزیة الإداریة في فصل "الإصلاحات الأخرى". وللتذكير أن الوثيقة وقبل تحديد رؤيتها للامركزية الإدارية أكّدت بأن "الدولة اللبنانیة دولة واحدة موحدة ذات سلطة مركزیة قویة" وهذا التأكيد أتى كاستجابة منطقية للحاجة الماسة إلى إعادة بناء الدولة التي تفككت أوصالها وما تزال وصولاً إلى التحلل. وهذه الحاجة قد تكون أشدّ إلحاحاً من الحاجة القائمة إلى اعتماد اللامركزیة الإداریة الموسعة على مستوى الوحدات الإداریة الصغرى (القضاء وما دون) كما تقول الوثيقة.
حال المناطق المسماة محرومة ليس أفضل من المركز أي من العاصمة وضواحيها، لأن هذه الأخيرة تعاني ما تعانيه من فشل السلطة في إدارة الشأن العام وصولاً إلى التفجّر والانهيار. لكن العاصمة ومحيطها تتمتع، دون غيرها، بوجود البنية التحتية الثقافية التي تتكون من عدد من المتاحف والمسارح ودور وصالات العرض للفنون المتنوعة وتتركز فيها مجمل أشكال الحياة الثقافية والفكرية.
أما المناطق البعيدة فهي بالفعل محرومة حرماناً شبه تام على هذا الصعيد. وفي هذا الصدد جاءت مبادرة "لبنان يقرأ" التي أطلقتها دار النهار للنشر تحت شعار اللامركزية الثقافية، كنسمة هواء عليل وشمعة تنير ظلاماً دامساً. فانطلقت سلسلة معارض الكتاب بدءاً من عكار وتحديداً معمل الحرير التراثي في القبيات، وكان للشريك المحلي، الصالون الثقافي في القبيات، دور كبير في تحقيق الحلقة الأولى النموذجية من هذه المبادرة التي سوف تشمل المناطق اللبنانية كافة. الإقبال على المشاركة من قبل دور النشر ومؤسسات التعليم العالي كبير وغير مسبوق، ويضاهيه إقبال أهل عكار اللافت على المعرض من اليوم الأول. ولعلّ هذا المشهد يشكل بارقة أمل بأن لبنان الذي يقرأ بالفعل يتمكن فيه المواطن من تكوين وعيه الوطني واتخاذ خياراته على أساس من المعرفة والعلم فيكون له مستقبل أفضل.