بأقلامهم >بأقلامهم
بالنظام - الفصل بالاتجاهين (3)
بالنظام - الفصل بالاتجاهين (3) ‎الجمعة 18 08 2023 12:14 زياد شبيب
بالنظام - الفصل بالاتجاهين (3)

جنوبيات

في مقالين سابقين تحت هذا العنوان تمّ بحث العلاقة بين الشأنين #الديني والسياسي ووجوب إقامة الفصل بينهما على أنّ الفصل يكون بالاتجاهين. هذا القول يمكن أن يُفهَم على غير حقيقة مقصده من جانب المتمسكين بالبعد الديني للعمل السياسي وبالانتماء إلى الطائفة كجامع بين المنتمين إلى خيار سياسي معين، كما يفهم خطأً أيضًا من قبل المطالبين بالعلمانية على الطريقة المطبّقة في بعض الدول الغربية من حيث كونها تقوم على ازدراء الدين ومحاربة أي دور يمكن أن يأخذه رجاله في الحياة العامة، أي الذين يعتبرون عن خطأ أن المشكلة في المجتمعات المتعددة دينيًا وفي غيرها تكمن في البعد الديني المكوِّن للإنسان وليس في الخلط بين هذا البعد وبين شؤون الحياة العامة والمواطنة وفي استغلال القوى السياسية لهذا البعد لغرض الحشد السياسي وتأمين الولاء السياسي على أسس غير عقلية بل فقط على أساس الانتماء الديني.

لقد ثبت أنّ كِلا الاتجاهين المذكورين على خطأ، بدليل استحالة إقامة نظام حكم مستقرّ وعادل في ظل التمسك بأولوية الانتماء الطائفي في تحديد الخيار السياسي، وأيضًا استحالة مداواة هذا الداء بنقيضه وهو اجتثاث البعد الديني من حياة المواطنين. وانطلاقًا من هذه الثابتة أصبح الفصل بين الشأنين العام والطائفي هو الحلّ على أن يكون بالاتجاهين فلا يُسمح لأهل السياسة بالهيمنة على القرار الديني أو استعماله في تعزيز نفوذهم، وبالعكس، وأن تكون الحدود بين المجالين قائمة على تحديد كل من المجالين ومنع التداخل بينهما. هذا المنع لا يعني بالضرورة السماح بإسكات رجال الدين عن قول الحق ومحاربة الظلم وفضح أصحابه كما حصل مع #الشيخ ياسر عودة مؤخرًا، فهذا الفعل من تجليات نظام الزعامة السياسية الطائفية الذي يحتكر تمثيل الطائفة لصالح زعيم واحد أو أكثر ولا يقبل الأصوات المخالفة.

إن تصنيف المواطنين وتحديد حقوقهم وواجباتهم القانونية ولا سيما حقهم في تبوء المناصب العامة على أساس انتمائهم الديني أفسح المجال لقيام مفهوم الزعيم الطائفي الذي ليس عليه إلا أن يكون الأكثر تمسّكًا بما يُسمى حقوق الطائفة، أي مجموعة المكاسب والمناصب المخصصة للمنتمين إليها، وبالتالي يكون الأكثر طائفيّةً في طائفته. فالأساس المذكور يحوّل العمل السياسي إلى أداة للحشد وشدّ العصب عن طريق ادعاء تحصيل الحقوق الطائفية وانتزاعها من الغير المهيمن عليها أو حمايتها من الغير الراغب بانتزاعها.
أما العلمنة بمفهومها الشامل الذي يحارب التديّن ويشجّع الإلحاد ويزدري الإيمان ويبجّل المستهزئين به، فقد ثبت أنها أولًا غير قادرة على اقتلاع الإيمان الديني من قلوب الناس أو على إحلال نُظُمٍ إيمانية وعقائد ماديّة أو إنسانية محلّه بغير وسيلة الاضطهاد، وهذه الوسيلة أثبتت فشلها في تحقيق الشمول في النتيجة والاستمرار في الزمن.

العمل في الشأن العام من منطلق الارتكاز إلى قاعدة طائفية يؤدي حكمًا إلى تصنيف القائم به في خانة الآخر بالنسبة لأبناء الطوائف الأخرى، وإلى تصنيف هذا الآخر على أنه مصدر خوف وتهديد إذا ما برز وتفوّق، مهما كانت شعاراته. هذا ينطبق على مقاومة الاحتلال طالما أن القائمين بها جماعة من طائفة دينية واحدة. رفيق الحريري في ذروة تألقه وقبل اغتياله شكّل مصدر خوف عند أوساط طائفية أخرى واعتبر نجاحه مشروع ضعف لدى الآخرين، وبشير الجميّل اعتُبر فوزه بالرئاسة انتصارًا لطائفة على الطوائف الأخرى أما اغتياله اعتبر هزيمة لطائفته وفوزًا للخائفين من قوّته.

هذه المسلّمات لا يمكن كسرها بالعمل وفق قواعد اللعبة القائمة منذ عقود بل بالثورة الفكرية عليها أولًا وتقديم النموذج النقيض.

المصدر : النهار