بأقلامهم >بأقلامهم
نبض الحياة



جنوبيات
تبلورت فكرة تأسيس هيئة الأمم المتحدة في الولايات المتحدة الأميركية عام 1944، خاصة وان عصبة الأمم اضمحل دورها مع اشتعال شرارة الحرب العالمية الثانية 1939، ولم يعد لها أي دور، حتى تجاهلتها الدول المتصارعة، ثم تلاشى نشاطها كليا في 20 نيسان / ابريل 1946 عندما سلمت قيادتها ما لديها من وثائق ومعاهدات اممية لقيادة هيئة الأمم المتحدة، التي تأسست في أيلول / سبتمبر 1945، وهدفت واشنطن لاستثمار دور الهيئة الدولية الجديدة، الى جانب توظيفها تأسيس مؤسستي الصندوق والبنك الدوليين لتوسيع نفوذها على المستوى العالمي ككل، والخروج من نطاق حصر نفوذها في حدود الاميركيتين، فضلا عن تزعمها المعسكر الرأسمالي الغربي بعد خروج دول أوروبا المنتصرة والمهزومة منهكة من الحرب، وعبر تدخلها المباشر في أوروبا من خلال مشروع مارشال لإعادة تأهيل أوروبا.
بيد ان هيئة الأمم المتحدة خرجت تدريجيا عن وصاية وهيمنة الولايات المتحدة، نتاج انضمام دول العالم كافة للمنظمة، بالإضافة لتطور الخارطة الجيوسياسية العالمية، وصعود أقطاب دولية جديدة منافسة للقطب الأميركي، وسعيها الحثيث لتشكيل عالم متعدد الأقطاب وفق منظومة عولمة جديدة، بعيدا عن هيمنة القطب الأميركي، الامر الذي أثر على موقف واشنطن السلبي من البقاء في أطرها ومنظماتها المختلفة، وبعد انسحابها من منظمة الصحة العالمية ومجلس حقوق الانسان الاممي واتفاقية المناخ وقطع الدعم عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الاونروا"، وكانت انسحبت من منظمة اليونيسكو في دورة ترمب الأولى، ثم عادت في عهد إدارة بايدن السابقة، والان تفكر بالانسحاب من الهيئة الدولية ككل.
وتمهيدا لذلك، وقع الرئيس دونالد ترمب في يوم الاثنين 4 شباط / فبراير الحالي، أمرا تنفيذيا إعادة تقييم مشاركة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، بدعوى أن المنظمة "سيئة الإدارة ولا تقوم بعملها". وتلازم مع الامر التنفيذي، تقدم عدد من النواب وأعضاء مجلس الشيوخ من الحزب الجمهوري بمشروع قانون للانسحاب الكامل للولايات المتحدة من هيئة الأمم المتحدة. وجاء في الوثيقة المتعلقة بالانسحاب الأميركي، والمنشورة على الموقع الاليكتروني لأحد المتقدمين بمشروع القانون، السيناتور الجمهوري مايك لي، "يقوم الرئيس بإلغاء عضوية الولايات المتحدة بالكامل في الأمم المتحدة، وفي أي أجهزة أو وكالات متخصصة أو لجان أو هيئات أخرى مرتبطة رسميا بالأمم المتحدة."
ويهدف المشروع للانسحاب التدريجي من خلال خفض تمويل الأمم المتحدة ووكالاتها ومنع إعادة الانضمام الى المنظمة دون موافقة مجلس الشيوخ، إضافة الى ذلك، سيتم فرض حظر مشاركة الولايات المتحدة في بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وهذا ما عكسه تصريح السناتور لي لقناة "فوكس نيوز"، باعتباره الأمم المتحدة أصبحت "منصة للطغاة" لشن هجمات على الولايات المتحدة وحلفائها، ودعا الى وقف التمويل للمنظمة، لأنها تستخدم الأموال "لتقويض" المصالح الأميركية وتعزيز قوة خصومها.
هذه المواقف العملية والتشريعية من قبل اركان الإدارة تؤكد، أن واشنطن باتت تعتبر هيئة الأمم المتحدة عبئا عليها، وخارجة عن طوع ارادتها، وفقدت الامل في إمكانية ضبط توجهاتها، لذا هاجمتها، واعتبرتها "منصة للطغاة" المنافسين لها، وتناست الإدارة وقيادتها، انها هي ذاتها عنوان ونموذج الطغاة في العالم، وبالتالي محاولة الصاق تهم ضد المنظومة الأممية لا تمت للحقيقة بصلة، وتتنافى مع طبيعتها وميثاقها ومعاهداتها وقوانينها، لأنها تعمل في خدمة الإنسانية والعدالة الاجتماعية ومواجهة الظلم وأعداء السلام والحرية أمثال إدارات الولايات المتحدة المتعاقبة واداتهم الوظيفية إسرائيل ومن يدور في فلكهم. ولافتراض البيت الأبيض وقادة إسرائيل، ان الهيئات الدولية وجدت لخدمة مصالحها، وللتغطية على جرائم حروبهم وارهابهم الدولاني، وليس لحماية الشعوب والأمم الضعيفة والمظلومة والمناضلة من اجل حريتها وانعتاقها من ربقة الاستعمار الأخير، كما الشعب العربي الفلسطيني.
إذا الخطوات التمهيدية الأميركية تؤشر بشكل جلي، الى ان الإدارة الجمهورية تتقدم بخطى ثابتة ومتدرجة نحو الانفكاك من الأمم المتحدة كليا، ولهذا تداعيات على مستقبل بقاء المنظومة الأممية، لأن الولايات المتحدة قطب دولي أساسي، كما أن مقر هيئة الأمم المتحدة في مدينة نيويورك الأميركية، أضف الى ان واشنطن تعتبر من أبرز المساهمين في موازنة هيئة الأمم المتحدة ومنظماتها ووكالاتها الأممية، وبالتالي فإن انسحابها يعني عمليا تقويض وهدم البيت الاممي الجامع، الامر الذي يتطلب من الأقطاب الدولية المنادية والساعية لبناء عالم متعدد الأقطاب أن تستعد لتحمل مسؤولياتها العالمية لجهة أولا نقل المقر الاممي من نيويورك الى شنغهاي أو الى إحدى المدن الروسية أو الهندية أو الأوروبية ، وزيادة اسهاماتهم جميعا في تمويل المنظمة الأممية لتتمكن من القيام بمهامها الإنسانية وصون السلم والامن العالميين، إن كانوا جادين في بناء عالم متعدد الأقطاب..