بأقلامهم >بأقلامهم
المناعة السلوكية: مقاربة مفاهيمية لفهم تحوّلات الاستجابة المجتمعية للأحداث العنيفة



جنوبيات
في ظل التكرار المستمر لمشاهد الإبادة، العنف والدمار، سواء عبر وسائل الإعلام التقليدي أو الحديث تتشكّل آليات استجابة سلوكية لدى الأفراد والمجتمعات.
ومن خلال دراسة حالات متعددة، أطرح مفهوم «المناعة السلوكية»، وهو مفهوم جديد يعكس كيفية تطوّر أنماط الاستجابة السلوكية لدى الأفراد نتيجة التعرّض المستمر لمشاهدة الأحداث العنيفة.
يستند هذا المفهوم إلى تشابه مع المناعة البيولوجية، حيث يؤدي التعرّض المتكرر للعنف إلى تكيّف سلوكي تدريجي، ما يغيّر أنماط التفاعل مع الأحداث الصادمة.
الأسس السوسيولوجية لمفهوم المناعة السلوكية
يرتبط هذا المفهوم بمقاربات سوسيولوجية مثل «التطبيع مع العنف» أو «التبلد العاطفي»، لكنّه يختلف عنهما من حيث تركيزه على التحوّلات السلوكية لا العاطفية فقط.
فبينما تركّز النظريات السابقة على تراجع التأثير النفسي، يقترح مفهوم المناعة السلوكية أن هذه الظاهرة تؤدي إلى إعادة هيكلة أنماط الفعل الاجتماعي، بما في ذلك القبول السلبي للعنف أو، على العكس، تطوير استراتيجيات مقاومة وصمود.
آلية تشكّل المناعة السلوكية
من خلال تحليل ميداني لحالات مختلفة تشمل متابعة الأفراد المستمرة للأخبار العنيفة ومشاهد الدمار والحرب والإبادة، تبيّن أن المناعة السلوكية تتخذ مسارين رئيسيين:
1- مسار الصمود والتكيّف الإيجابي:
مع تكرار التعرّض للأحداث العنيفة، يطوّر بعض الأفراد والمجتمعات آليات مقاومة متزايدة، حيث تتحوّل الصدمة الأولية إلى دافع للسلوك النشط، مثل الانخراط في حملات دعم الضحايا، أو التحركات الحقوقية والسياسية. هؤلاء الأفراد لا يصبحون غير مبالين، بل يعيدون توجيه استجابتهم نحو أفعال مؤثرة، ما يعزز ثقافة المقاومة والصمود والاستجابة المجتمعية الواعية.
2- مسار القبول السلبي أو النزوع للعنف:
في حالات أخرى تتم عملية المناعة السلوكية على مراحل، تبدأ بتأثير عاطفي قوي عند التعرّض الأوّلي للأحداث الصادمة، حيث يشعر الأفراد بالغضب أو الحزن أو الانفعال.
لكن مع مرور الوقت، يبدأ التأثير العاطفي في التراجع بسبب التعرّض المستمر، حيث تصبح مشاهدة العنف لا تثير أي ردود فعل.
بيد أنه قد يتحوّل هذا القبول السلبي إلى نزوع نحو العنف ذاته، فيتبنّى الأفراد أنماطاً هجومية تجاه المسببين لهذه الأحداث، ما قد يؤدي إلى مزيد من التصعيد في بعض السياقات الاجتماعية والسياسية.
البُعد المنهجي: دراسة حالات ميدانية
استندت هذه المقاربة إلى تحليل سوسيولوجي لعدد من الحالات التي تعكس تشكّل المناعة السلوكية.
شملت الدراسة مقابلات مع أفراد ممن يشاهدون بشكل مستمر الأخبار العنيفة، إضافة إلى تحليل تغطية إعلامية متكررة للأحداث الدامية ورصد التحوّلات في التفاعل الجماهيري معها مع عيّنة محددة عشوائية من الأفراد.
أظهرت النتائج أن الاستجابة السلوكية لا تتحدد فقط بشدّة العنف، بل أيضاً بمستوى التكرار وزمن التعرّض له، ما يعزز فكرة أن المناعة السلوكية عملية تراكمية وليست فورية.
إن هذا المفهوم يفتح أفقاً جديداً لفهم التحوّلات في الاستجابة السلوكية الجماعية، وهو مفهوم سوسيولوجي ناشئ يحتاج إلى مزيد من البحث الميداني لتحديد آلياته بدقّة.
لكن ما يبدو واضحاً حتى الآن، هو أن التعرّض المستمر لمشاهدة العنف لا يؤدي إلى رد فعل واحد، بل يتنوّع، وفقاً لعوامل اجتماعية وثقافية متعددة.