بأقلامهم >بأقلامهم
"حول أمرِ «كُنْ»"!
"حول أمرِ «كُنْ»"! ‎الخميس 17 04 2025 21:34 القاضي م جمال الحلو
"حول أمرِ «كُنْ»"!

جنوبيات

تساءل الكثير من متابعي مقالاتي عن خاتمة مقالي يوم أوّل من أمس بعنوان: "من فضل الله"، إذ إنّني أوردت في خاتمة المقال:

"ويُعادُ إلينا الحقّ المدفون بمقتضى كلمة السرّ المكنون: "كن فيكون"، ولا تسبق "الكاف" "النون"...
لقد ورد ذكرُ الأمر التّكوينيّ في غير آية في القرآن الكريم. ويطالعنا أوّلُ ذكرٍ لها نصًّا في السّورة الثّانية من سوره المباركة.. بحسب ترتيب المُصحف الشّريف.. وذلك قوله: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (البقرة 2: 117)!!

من الجديرِ بادئَ ذي بدءٍ الإنباهُ إلى الفرقِ بين مفهوم النّصّ ومصداقه.. وبين مفهوم الخطاب ومصداقه.. فقوله: «كُنْ فَيَكُونُ».. نصٌّ.. ومصداقُهُ: الإبداعُ والخلقُ.. نوعًا.. من عدمٍ.. وعدمِ عدمٍ!! وهو أيضًا خطابٌ ومصداقُهُ: الإطْلاعُ والإعْلامُ.. كيفًا.. من دون عناءٍ.. ولا إعياءٍ!! 

وبالنّظر إلى دلالة الخطاب لدى من يستحقُّ الخطاب.. فإنّ أمرَ »كُنْ فَيَكُونُ».. يُفصحُ عن كيفيّة تماميّة.. وناجزيّة.. وفاعليّة.. "التّكوين" الإلهيّ.. أي: متعلّق أمر «كُنْ».. بما يُحيل على المعنى في سرعة الخلق والإيجاد.. لمحلّ نفاذ الإرادةِ.. وفقًا لتعلّق العلم الكاشِف من غير سَبْقِ خفاءٍ!! ومعنى المعنى في عدم تخلّل ذلك لزمنٍ عاديٍّ.. لمحلّ نفاذ القدرة وفقًا لتعلّق الإرادة المخصِّصة من غير لَحْقِ عناءٍ!!

فالحاصل: أنّ الخطاب هنا تنزّليّ بلغة تنفهم من المستحقّ للخطاب.. يراد بها تقريبُ التّصوّر المفاهيميّ لعمليّة الإبداع على غير مثال سبق.. وليس أنّ ذلك حاصلٌ بكلمةٍ ملفوظةٍ محفوظةٍ.. أو مرقومةٍ مخصوصةٍ.. تتآلف من حروفٍ وحركاتٍ.. وتتوالف من لغاتٍ وأصواتٍ.. أو تتكاشف في ءاناتٍ وبُرُهاتٍ.. ففي حقيقة مصداق الأمر.. ما ثَمَّ حرفٌ ملفوظٌ.. ولا ثَمَّةَ صوتٌ مسموعٌ.. ولا تعاقبَ لأزمنةٍ.. ولا تصاقبَ لأمكنةٍ.. وإنّما هو خلقٌ وإبداعٌ.. وفيضٌ وإشراقٌ.. وتجلٍّ وظهورٌ.. بالزّمن.. لا فيه.. وذلكم بمقتضى العلمِ الكاشفِ.. والإرادةِ المخصِّصة.. والقدرة المبرِزة!!

ومن هاته الحيثيّة اللّاهوتيّة جاء الحديثُ القُدْسيّ عند الدّيلميّ في "مسند الفردوس".. بسندٍ حسنٍ.. مرفوعًا: «قال الله عزَّ وجلَّ: "يا جبريلُ إنّي خلقتُ ألفَ ألفِ أُمَّةٍ، لا تعلمُ أُمَّةٌ أنّي خلقتُ سواها، لم أُطلع عليها اللَّوح المحفوظ، ولا صرير القلم؛ إنّما أمري لشيءٍ إذا أردتُ أن أقول له كُنْ فيكونُ، ولا تسبقُ الكافُ النُّونَ"»!!

ومن هاتيك العطفة القدسيّة.. شاع لدى أشياخ الطّرق الصّوفيّة قولتُهُم.. في مناجاة الدّعاء: "يا مَنْ أمْرُهُ بينَ الكافِ والنّونِ".. ولها أصلٌ في حديثٍ وَلَوِيٍّ.. عن باب مدينة العلم عليٍّ.. والمُرادُ منها: أنّ الأمر التّكوينيّ.. نافذٌ من دون تخلُّلِ أوانٍ.. ولا تمفصُلِ زمانٍ.. تشبيهًا بموصول الكاف والنّون.. وكنايةً عن محصول وُصْلَة الْيَكُون!!

هذا؛ وقد توهّم مَنْ »أساءَ سَمْعًا.. فأساءَ جابةً».. ممَّن لا يستحقّ الخطاب.. فأنكر صحّة المقولة الموسومة فويقه.. زاعمًا أنّ الأمر التّكوينيّ.. ليس بين الكاف والنّون.. لكنّه بعد الكاف والنّون!! بما يؤول إلى لازمٍ بيّنٍ.. مقتضاه توالي قول "كُنْ.. كُنْ.. كُنْ..".. مِنْ لَدُن من له الخلقُ والأمر.. وهذا ما لا يتصوّره عاقلٌ.. ولا لمصداقه حاصلٌ!!

في الخلاصة: فإنّ الكاف والنّون.. خطابٌ كِنائيٌّ.. ومجازٌ استعاريُّ.. ينفهم من دلالة السّياق.. وعلاقة السّباق باللّحاق.. ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ (ق 50: 37)!!

 

المصدر : جنوبيات