بأقلامهم >بأقلامهم
عدوان أيلول أُعلن من "نيودلهي"...
جنوبيات
"صفقوا لي، فأنا ملك أورشليم، الحامي لمصالحكم في هذا الشرق، صفقوا لي، فمن مثلي يلعب دور المُنفذ والمُنقذ لمشروعكم الكبير، الذي به سيتغيّر وجه المنطقة ليصبح جديداً على هيئتكم، ونظيفاً على شاكلتكم، حتى وإن استخدمت قوتي ضدهم إلى حد الإفراط، فهذا من بعض هداياكم لي، فإني قد أهرقت دماءهم بسيفكم وطعنت صدور أبريائهم برمحكم، فصفقوا لي…ولا تترددوا فإني أرى مُلك داوود وسليمان يُبعث من جديد، لكن على طريقتي…وإني أرى مملكة اسرائيل الموحدة تنهض ثانية لتحكم بالنار والحديد، فحكمة سليمان الأمس دُمرت مع حيرام اليوم وسُحقت تحت أنقاض حطام مدينته صور…"
هذه هي رؤية نتنياهو "الشيطانية" للمنطقة، ولسان حاله الذي أطلقه على شكل همسات مجنونة في أذان الدول المتورطة بدماء اللبنانيين والفلسطينيين، حين اعتلى المنبر ليلقي كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أواخر سبتمبر 2024، وهذا الذي شجعه بأن يرفع للعلن خريطتيّ "الخير والشر" كما اسماهما، أولهما "خريطة الخير" التي شملت مناطق مغطاة باللون الأخضر الداكن للدول التي تربطها اتفاقيات سلام مع إسرائيل أو تخوض مفاوضات لإبرام اتفاقيات سلام معها، وهي مصر والسودان والإمارات والسعودية والبحرين والأردن، في حين لم تلحظ هذه الخريطة دولة فلسطين، حيث طغى اللون الأزرق، الذي يحمل كلمة إسرائيل، على خريطة الضفة الغربية وقطاع غزة، وقد أظهرت بوضوح "الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا" (IMEC). وثانيهما "خريطة الشر" التي ضمت دولاً مغطاة باللون الأسود وهي ايران، العراق، سوريا ولبنان.
وبهذا يكون نتنياهو قد تعمّد تذكير الدول المعنية بالاتفاق المبدئي الخاص بمشروع "الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا"، الذي تم التوقيع عليه بين كل من الولايات المتحدة والسعودية والإمارات العربية المتحدة والاتحاد الأوروبي، على هامش قمة قادة مجموعة العشرين في العاصمة الهندية نيودلهي في 9 سبتمبر/أيلول 2023. فهل هي مصادفة، أن يُعلن عنه قبل شهر واحد من عملية "طوفان الأقصى"؟ وقبل أن يُقفل الحوثيون باب الملاحة في البحر الأحمر أمام سفن العدو؟ وقبل عام كامل من بدء العدوان الشامل على لبنان في 23 أيلول المنصرم؟ هذا الاتفاق الذي وصفه المبعوث الرئاسي الأميركي لشؤون الطاقة آموس هوكشتاين بـ:"المشروع المهم والطموح، الذي سيغير الشرق الأوسط". لما يتضمنه من آليات استثمار لمراكز توليد الطاقة مثل الكهرباء والهيدروجين وعقود الشراء مع أوروبا، إضافة للخرائط التي تُبين انقسام المشروع إلى ممرين منفصلين هما "الممر الشرقي" الذي يبدأ من موانئ الهند إلى الإمارات العربية المتحدة، ثم يشق طريقه داخل السعودية عبر خط سكة حديد ليعبر الأردن ومنها إلى الأراضي المحتلة حتى ميناء حيفا، ثم يستكمل طريقه عبر "الممر الشمالي" بحراً إلى أوروبا عبر اليونان.
هذا المشروع الذي يُعتبر ذات أهمية اقتصادية استراتيجية بالنسبة للكيان المحتل، كونه يجعل منه القلب النابض الذي يضخ الاقتصاد المبرمج ما بين الشرق وأوروبا والعكس، قد كرّس هيمنته على المنطقة مُدعّماً بترسانة أسلحة كبيرة لترهيب المعارضين من جهة ولحماية المشروع من جهة أخرى، باعتباره "أكبر تعاون سياسي واقتصادي لربط الشرق بالغرب في التاريخ". وبما أن هذا الممر هو مشروع صهيوني بامتياز، ولأنّ كل ما لدى قادة العدو هو من الكتاب المقدس العبري، فقد نفضوا الغبار عن خرائط الطرق التجارية البرية القديمة، من قبل اكتشاف الممر البحري الذي يصل الهند بالبحر الأحمر. هذه الطرق التي كانت رائجة قبل دخول القبائل الإسرائيلية بلاد كنعان، إلى حين أن هاجمت فيه سكان فلسطين الكنعانيين، ثم استوطنت واستقرت تدريجياً، لتُدرك عندها الأهمية التجارية للطرق العديدة التي تجتاز مستوطناتهم، وكان أبرزها طريق القوافل لمنتجات بلاد الهند، عبر الخليج الفارسي أو العربي مباشرة إلى "الجرعاء" في الجزيرة العربية مروراً بالأردن حتى سهل أو وادي "يزرعيل" (jisreel)، الذي يربط بين مصر وغزة من جانب وبسوريا وبلاد ما بين الرافدين من جانب آخر، ومنه تتفرع أيضاً عدة طرق حتى المدن الساحلية الكنعانية والفنيقية: يافا، حيفا، عكا، وإلى الشمال تحديداً باتجاه صور وصيدون لأن الطريق الداخلية من الشرق مباشرة إليهما كانت طريقاً صخرية وعرة ولم تكن صالحة لاستخدام القوافل البرية حتى وقت متأخر.
عمدت القبائل الإسرائيلية إلى السيطرة على هذه الطرق، تارةً بالسلب والنهب وتارة أخرى بفرض الجباية على القوافل بغير وجه حق، ومن بعد هذه المرحلة دخل الاسرائيليون غمار التبادل التجاري مع شعوب المنطقة، مما أدى إلى حالات من النزاع بينهم وبين الفنيقيين الرائدين في هذا المجال، بسبب صراع السيطرة على الأسواق في المدن الساحلية والمنافسة التجارية المتبادلة على جزيرة قبرص وبلاد الإغريق، التي كان الفنيقيون سبّاقون في الملاحة البحرية إليها…باختصار يمكن القول أن العلاقة بينهما حملت الكثير من التعقيدات الناجمة عن قليل من التعاون التجاري تبعاً للمكان والزمان، مع كثير من الصراع الشرس على الأسواق والممرات في أمكنة أخرى وأزمنة مختلفة…ويمكن القول أيضاً أن هذا التعاون قد توسع وتطور في عهديّ كل من النبيين داوود وسليمان، حيث تميزت مرحلتهما بالتعاون التجاري المثمر مع كل من ملوك صيدا وصور وجبيل وفي تبادل المهن والخبرات، أبرزها من قبل الفنيقيين وتحديداً في مجالي النجارة والملاحة البحرية، مما شكل منعطفاً هاماً وملحوظاً في "التاريخ الإسرائيلي"، وذلك طوال فترة حكمهما "لمملكة اسرائيل الموحدة"، هذه المملكة التي أنشأها الملك شاوول استمرت منذ العام 1050 قبل الميلاد وحتى العام 930 قبل الميلاد تقريباً، أي إلى حين استلام رحيعام ابن النبي سليمان الحكم، حيث انقسمت إلى مملكتين يهوذا في الجنوب واسرائيل في الشمال…
ساءت العلاقة على اثرها مع المدن الفنيقية وتأجج الصراع الاقتصادي من جديد، ومما زادها سوءاً ما ورد لاحقاً في "سفر إشعياء" لاسيما الأصحاح 23 و"سفرحزقيال" في الأصحاح 28، حول مصير بعض المدن الفنيقية. وما سيلحق بهم من دمار وهلاك ما تقشعر له الأبدان وتشيب منه رؤوس الأولاد، جاء ليؤرخ مصداقية هذا الصراع القديم، وليظهر حجم الحقد والكم الهائل من الكراهيه المملوءة بالغيرة والحسد، تحديداً تجاه مدينتي صور وصيدون، والسبب الوحيد هو التفوق التجاري الذي ارتد رخاءً اقتصادياً ملموساً على امتداد مدن الساحل الفنيقي (لبنان اليوم)، مما انعكس سلباً على اقتصاد كل من مملكتيّ يهوذا واسرائيل المنغمستين في الصراع مع بعضهما البعض، ولم يتوقف إلا بمجيء الخراب الأول…وعلى الرغم من مرور تاريخ طويل مملوء بالأحداث الدراماتيكية على مدينتي صور وصيدون، إلا أن نتانياهو يُصر على استخدام مضمون ما ورد في "سفريّ إشعياء وحزقيال"، حول هاتين المدينتين، ليزجه زجاً في حربه ضد لبنان بغية إعطائها صفة "القداسة التوراتية"، فضلاً عن ما منحه إياه اتفاق "نيودلهي" من تفويض مفتوح في تنفيذ مشروع "الممر الهندي" …كل ذلك فقط لأن لبنان "الفنيقي" قد نافس الاسرائيليين اقتصادياً في العهد القديم، ولما قد تشكله عودة لبنان اليوم إلى عافيته الاقتصادية من تحدٍ للكيان…
إذاً ليس صحيحاً أن الأمر كله بسبب عملية "طوفان الأقصى"، كما ليس صحيحاً أن الأمر كله أيضاً بسبب ترسانة "حزب الله" المسلحة، وإن لوّح بها الاحتلال كعذر دولي لحملته العسكرية، ليَبينَ بالواقع الملموس أن هدف العدو الإسرائيلي الأساس من هذه الحرب هو تسوية الاقتصاد اللبناني بالحضيض، "ليُنسى سبعين سنة"، وإلاّ ما معنى الانتقال إلى مرحلة تدمير الأبنية المدنية والأسواق التجارية والمؤسسات السياحية في المدن والقرى اللبنانية؟ وما معنى استهدافه للمستشفيات والطواقم الصحية والدفاع المدني؟ وماذا عن استهداف الجيش اللبناني؟ لذا وإن كانت القذائف الصهيونية اليوم تطال اقتصاديات فئة دون غيرها من اللبنانيين، فإن شظاياها المستقبلية ستصيب ولو بعد حين كامل اقتصاديات الفئات الأخرى. وإن كان هناك ممن يعوّلون على تقسيمات كونفدرالية أو غير كونفدرالية لوطن ال10452، فإنّ مآسي الحروب الأهلية مازالت ماثلة على أشهاد المقابر أينما يوَلّون وجوهم في لبنان…